فصل: شهادة التّوسّم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


شَلَل

التّعريف

1 - الشّلل لغةً‏:‏ مصدر شلّ العضو يشلّ شللاً أي أصيب بالشّلل أو يبس فبطلت حركته، أو ذهبت، وذلك إذا فسدت عروقه أو ضعفت‏.‏

ويقال‏:‏ شلّ فلان‏.‏ ويقال في الدّعاء للرّجل‏.‏ لا شلّت يمينك‏.‏ وفي الدّعاء عليه‏:‏ شلّت يمينه، فهو أشلّ، وهي شلاء، والجمع شلّ‏.‏

والشّلل في الاصطلاح‏:‏ فساد العضو وذهاب حركته، ويكون العضو بهذه الحالة فاسد المنفعة‏.‏ ولا يشترط زوال الحسّ بالكلّيّة وإنّما الشّلل بطلان العمل‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالشّلل

يتعلّق بالشّلل جملة أحكام‏:‏

أ - الوضوء‏:‏

2 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة خلافاً للحنفيّة إلى أنّ لمس الرّجل المرأة ينقض الوضوء، وقدّره المالكيّة والحنابلة بأن يكون اللّمس لشهوة‏.‏ وكذا عندهم ينتقض الوضوء بمسّ الفرج‏.‏ وسوّوا بين أن يكون العضو الملموس أو الملموس به صحيحاً أو أشلّ‏.‏

على تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏حدث‏)‏‏.‏

ب - صلاة الأشلّ‏:‏

3 - يأتي المريض أو المصاب بالشّلل بأركان الصّلاة الّتي يستطيعها عند جمهور الفقهاء لأنّ العاجز عن الفعل لا يكلّف به‏.‏

فإذا عجز عن القيام يصلّي قاعداً بركوع وسجود، فإن عجز عن ذلك صلّى قاعداً بالإيماء‏.‏ ويجعل السّجود أخفض من الرّكوع، فإن عجز عن القعود يستلقي ويومئ إيماءً لأنّ سقوط الرّكن لمكان العذر فيتقدّر بقدر العذر‏.‏

وروي عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه - أنّه قال‏:‏ مرضت فعادني رسول اللّه فقال‏:‏ » صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب، تومئ إيماءً «‏.‏

وقال قاضيخان‏:‏ تسقط عن المريض العاجز عن الإيماء بالرّأس‏.‏

‏(‏ر‏:‏ صلاة المريض‏)‏‏.‏

ج - الجناية الّتي تسبّب الشّلل‏:‏

4 - اختلف الفقهاء في وجوب القصاص في الشّلل النّاشئ عن الاعتداء بالضّرب أو الجرح حيث زالت المنفعة مع بقاء العضو قائماً‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏جناية على ما دون النّفس ف 36‏)‏‏.‏

د - أخذ العضو الصّحيح بالأشلّ‏:‏

5 - إذا جنى جان صحيح اليد على يد شلاء فقطعها فلا تقطع الصّحيحة بالشّلاء وكذا إذا كان المقطوع رجلاً أو لساناً أشلّ لعدم التّماثل وإن رضي الجاني فتجب حكومة عدل إلاّ إذا كان المقطوع أذناً أو أنفاً أشلّ فتجب دية العضو كاملةً‏.‏ لأنّ اليد أو الرّجل الشّلاء لا نفع فيها سوى الجمال فلا يؤخذ بها ما فيه نفع كالصّحيحة‏.‏

وينظر التّفصيل في ‏(‏ديات ف 43‏)‏‏.‏

هـ – أخذ العضو الأشلّ بالصّحيح‏:‏

6 – اتّفق الفقهاء على أنّه يؤخذ العضو الصّحيح بالصّحيح‏.‏

واختلفوا في قطع العضو الأشلّ بالصّحيح‏:‏

فذهب الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة إلى أنّ المجنيّ عليه بالخيار إن شاء اقتصّ، وذلك له، ولا شيء له غيره، وإن شاء عفا، وأخذ الدّية‏.‏

ولا تقطع إلاّ إن قال أهل الخبرة والبصر‏:‏ بأنّه ينقطع الدّم بالحسم، أمّا إن قالوا‏:‏ إنّ الدّم لا ينقطع فلا قصاص على ما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة، وتجب دية يده‏.‏

وعند المالكيّة لا تقطع يد الجاني إذا كانت شلاء باليد الصّحيحة، لعدم المماثلة، وعليه العقل أي‏:‏ الدّية‏.‏

وذهب الحنفيّة عدا زفر والمالكيّة إلى أنّ الشّلاء لا تقطع بالشّلاء، لأنّ الشّلل علّة، والعلل يختلف تأثيرها في البدن‏.‏

وعلّل الحنفيّة ذلك‏:‏ بأنّ بعض الشّلل في يديهما يوجب اختلاف أرشيهما، وذلك يعرف بالحزر والظّنّ، فلا تعرف المماثلة‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة إلى أنّه تقطع الشّلاء من يد أو رجل بشلاء ولكنّ محلّه إذا استويا في الشّلّ، أو كان شلل الجاني أكثر ولم يخف نزف الدّم، وإلاّ فلا تقطع‏.‏

إلاّ أنّ زفر من الحنفيّة قال‏:‏ إن كانا سواءً ففيهما القصاص، وإن كانت يد المقطوعة يده أقلّهما شللاً فهو بالخيار، إن شاء قطع وإن شاء ضمّنه الأرش، وإن كانت أكثر شللاً، فلا قصاص وله أرش يده‏.‏

ولمزيد من التّفصيل ‏(‏ر‏:‏ الموسوعة الفقهيّة‏:‏ جناية على ما دون النّفس ج /16، فقرة /15-16، ص/70 - 71‏)‏‏.‏

و - نكاح الأشلّ‏:‏

7 - اتّفق الفقهاء على أنّه إن كان الزّوج عنّيناً فللزّوجة الخيار‏.‏ وعليه إن كان الشّلّ في غير عضو الذّكر فلا يعدّ من عيوب النّكاح، لأنّه لا يفوّت الاستمتاع ولا يخشى تعدّيه‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ فلم يفسخ به النّكاح كالعمى والعرج، ولأنّ الفسخ إنّما يثبت بنصّ أو إجماع أو قياس ولا شيء هنا‏.‏

ولمزيد من التّفصيل في مسألة العنّين راجع مصطلح‏:‏ ‏(‏عنّين ونكاح‏)‏‏.‏

شِمَال

انظر‏:‏ يمين

شَمّ

التّعريف

1 - الشّمّ في اللّغة‏:‏ مصدر شممته أشمّه، وشممته أشمّه شمّاً‏.‏

والشّمّ‏:‏ حسّ الأنف، وإدراك الرّوائح‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ تشمّم الشّيء واشتمّه‏:‏ أدناه من أنفه ليجتذب رائحته‏.‏

ولا يخرج معنى اللّفظ في الاصطلاح عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستنكاه‏:‏

2 - جاء في اللّسان‏:‏ استنكهه‏:‏ شمّ رائحة فمه، والاسم‏:‏ النّكهة‏.‏ ونكهته‏:‏ شممت ريحه، وفي حديث قصّة ماعز الأسلميّ‏:‏ » فقام رجل فاستنكهه «‏:‏ أي شمّ نكهته ورائحة فمه‏.‏

الحكم التّكليفيّ

3 - الشّمّ قد يكون واجباً وذلك في حقّ الشّهود المأمورين بالشّمّ لأجل الخصومات الواقعة في روائح المشموم حيث يقصد الرّدّ بالعيب أو يقصد منع الرّدّ إذا حدث العيب عند المشتري‏.‏

وكما في شمّ الشّهود فم السّكران لمعرفة رائحة الخمر‏.‏

وقد يكون الشّمّ حراماً أو مكروهاً كشمّ الطّيب للمحرم بالحجّ أو العمرة عند من يقولون بذلك‏.‏ وقد يكون مباحاً كشمّ الزّهور والرّياحين المباحة والطّيب المباح‏.‏ إلاّ إذا كان طيباً تطيّبت به امرأة أجنبيّة فيحرم تعمّد شمّه‏.‏

شمّ الصّائم الطّيب ونحوه

4 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لو أدخل الصّائم إلى حلقه البخور وشمّ رائحته أفطر لإمكان التّحرّز عنه‏.‏ وإذا لم يصل إلى حلقه لا يفطر‏.‏ أمّا لو شمّ هواءً فيه رائحة الورد ونحوه ممّا لا جسم له فلا يفطر عند الحنفيّة‏.‏

وكرهه المالكيّة‏.‏

كما يكره عند الشّافعيّة شمّ الرّياحين ونحوها نهاراً للصّائم لأنّه من التّرفّه ولذلك يسنّ له تركه‏.‏ وعند الحنابلة إذا كان الطّيب مسحوقاً كره شمّه لأنّه لا يؤمن من شمّه أن يجذبه نفسه للحلق، ولذلك لا يكره شمّ الورد والعنبر والمسك غير المسحوق‏.‏

شمّ المحرم الطّيب

5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى كراهة شمّ الطّيب للمحرم‏.‏ ولا فرق عند المالكيّة بين الطّيب المذكّر والمؤنّث‏.‏ وهو مذهب المدوّنة، وقال الباجيّ من المالكيّة‏:‏ يحرم شمّ الطّيب المؤنّث‏.‏ كذلك يكره عند الشّافعيّة شمّ الطّيب للمحرم، لكن يؤخذ ممّا جاء في المهذّب وشرحه المجموع أنّه يحرم شمّ ما يعتبر طيباً كالورد والمسك والكافور‏.‏

واختلف في الرّيحان الفارسيّ والنّرجس والنّيلوفر ونحوه وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يجوز شمّها لما روي عن عثمان - رضي الله تعالى عنه - أنّه سئل عن المحرم‏:‏ يدخل البستان‏؟‏ فقال‏:‏ نعم ويشمّ الرّيحان، ولأنّ هذه الأشياء لها رائحة إذا كانت رطبةً فإذا جفّت لم يكن لها رائحة‏.‏

والثّاني‏:‏ لا يجوز، لأنّه يراد للرّائحة فهو كالورد والزّعفران‏.‏

وروى البيهقيّ بإسناده عن ابن عبّاس أنّه كان لا يرى بأساً للمحرم بشمّ الرّيحان، وروى البيهقيّ عكسه عن ابن عمر وجابر فروى بإسنادين صحيحين أحدهما عن ابن عمر أنّه كان يكره شمّ الرّيحان للمحرم، والثّاني عن أبي الزّبير أنّه سمع جابراً يسأل عن الرّيحان أيشمّه المحرم، والطّيب والدّهن فقال‏:‏ لا‏.‏

وأمّا ما يطلب للأكل والتّداوي غالباً كالقرنفل والدّارصينيّ والفواكه كالتّفّاح والمشمش فيجوز أكله وشمّه لأنّه ليس بطيب‏.‏

ويجوز للمحرم عند الشّافعيّة الجلوس عند العطّار وفي موضع يبخّر لأنّ في المنع من ذلك مشقّةً ولأنّ ذلك ليس بتطيّب مقصود والمستحبّ أن يتوقّى ذلك إلاّ أن يكون في موضع قربة كالجلوس عند الكعبة وهي تجمّر، فلا يكره ذلك لأنّ الجلوس عندها قربة‏.‏

وفصّل الحنابلة فقالوا‏:‏ النّبات الّذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب‏:‏

أحدها‏:‏ ما لا ينبت للطّيب ولا يتّخذ منه كنبات الصّحراء من الشّيح والقيصوم والخزامى والفواكه كلّها من الأترجّ والتّفّاح، وما ينبته الآدميّون لغير قصد الطّيب كالحنّاء والعصفر فمباح شمّه ولا فدية فيه ولا نعلم فيه خلافاً إلاّ ما روي عن ابن عمر أنّه كان يكره للمحرم أن يشمّ شيئاً من نبات الأرض‏.‏

الثّاني‏:‏ ما ينبته الآدميّون للطّيب ولا يتّخذ منه طيب كالرّيحان الفارسيّ والنّرجس ففيه وجهان‏:‏ أحدهما يباح بغير فدية، قاله عثمان بن عفّان وابن عبّاس والحسن ومجاهد وإسحاق رضي الله عنهم‏.‏ والآخر يحرم شمّه، فإن فعل فعليه الفدية، وهو قول جابر وابن عمر وأبي ثور رضي الله عنهم لأنّه يتّخذ للطّيب فأشبه الورد وكلام أحمد يحتمل أنّه يكره ولا يجب فيه شيء‏.‏

الثّالث‏:‏ ما ينبت للطّيب ويتّخذ منه طيب كالورد والبنفسج ففي شمّه الفدية، وعن أحمد رواية أخرى في الورد أنّه لا فدية عليه في شمّه لأنّه زهر فشمّه كشمّ زهر سائر الشّجر‏.‏

الإجارة للشّمّ

6 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم جواز إجارة الشّيء كالتّفّاح مثلاً لشمّه لأنّ الرّائحة عند الحنفيّة منفعة غير مقصودة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لأنّها لا قيمة لها شرعاً‏.‏

وأجاز الشّافعيّة استئجار المسك والرّياحين للشّمّ لأنّ المنفعة متقوّمة‏.‏

وفرّق الحنابلة بين ما تتلف عينه وما لا تتلف‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ يجوز استئجار ما يبقى من الطّيب والصّندل وقطع الكافور والنّدّ لتشمّه المرضى وغيرهم مدّةً ثمّ يردّها، لأنّها منفعة مباحة فأشبهت الوزن والتّحلّي‏.‏ ثمّ قال‏:‏ ولا يصحّ استئجار ما لا يبقى من الرّياحين كالورد والبنفسج والرّيحان الفارسيّ وأشباهه لشمّها، لأنّها تتلف عن قرب فأشبهت المطعومات‏.‏

الجناية على حاسّة الشّمّ

7 - الجناية على حاسّة الشّمّ إمّا أن تكون عمداً أو خطأً‏.‏ فإن كان عمداً كمن شجّ إنساناً فذهب شمّه فإنّه يقتصّ من الجاني بمثل ما فعل، فإن ذهب بذلك شمّه فقد استوفى المجنيّ عليه حقّه، وإن لم يذهب الشّمّ فعل بالجاني ما يذهب الشّمّ بواسطة أهل الخبرة في ذلك، فإن لم يمكن إذهاب الشّمّ إلاّ بجناية سقط القود ووجبت الدّية‏.‏

وهذا عند المالكيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏

وعند الحنفيّة تجب الدّية لأنّه لا يمكن أن يضرب الجاني ضرباً يذهب به حاسّة الشّمّ فلم يكن استيفاء المثل ممكناً فلا يجب القصاص وتجب الدّية‏.‏ وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏

وإن كان إبطال حاسّة الشّمّ نتيجة ضرب أو جرح وقع خطأً، أو كان الضّرب عمداً لكن كان الجرح ممّا لا يمكن القصاص فيه فتجب الدّية كاملةً إذا كان إبطال الشّمّ من المنخرين، لأنّه حاسّة تختصّ بمنفعة فكان فيها الدّية كسائر الحواسّ، قال ابن قدامة‏:‏ ولا نعلم في هذا خلافاً ولأنّ في كتاب عمرو بن حزم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ » وفي المشامّ الدّية «‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الصّحيح عند الشّافعيّة‏.‏ ومقابل الصّحيح عند الشّافعيّة‏:‏ تجب فيه حكومة لأنّه ضعيف النّفع‏.‏

وإذا زال الشّمّ من أحد المنخرين ففيه نصف الدّية‏.‏ وإن نقص الشّمّ وجب بقسطه من الدّية إذا أمكن معرفته وإلاّ فحكومة يقدّرها الحاكم بالاجتهاد‏.‏

ومن ادّعى زوال الشّمّ امتحن في غفلاته بالرّوائح الحادّة الطّيّبة والمنتنة، فإن هشّ للطّيّب وعبس لغيره فالقول قول الجاني بيمينه لظهور كذب المجنيّ عليه‏.‏ وإن لم يتأثّر بالرّوائح الحادّة ولم يبن منه ذلك، فالقول قول المجنيّ عليه‏.‏

زاد الشّافعيّة‏:‏ ويحلف لظهور صدقه، ولا يعرف إلاّ من قبله‏.‏

وإن ادّعى المجنيّ عليه نقص شمّه فالقول قوله مع يمينه عند الشّافعيّة والحنابلة لأنّه لا يتوصّل إلى معرفة ذلك إلاّ من جهته فقبل قوله فيه، ويجب له من الدّية ما تخرجه الحكومة‏.‏

وإن ذهب شمّه ثمّ عاد قبل أخذ الدّية سقطت وإن كان بعد أخذها ردّها لأنّا تبيّنّا أنّه لم يكن ذهب‏.‏ وإن رجي عود شمّه إلى مدّة انتظر إليها‏.‏

هذا إذا ذهب الشّمّ وحده‏.‏

أمّا إن قطع أنفه فذهب بذلك شمّه فعليه ديتان كما نصّ عليه الشّافعيّة والحنابلة لأنّ الشّمّ في غير الأنف فلا تدخل أحدهما في الآخر‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ فيهما دية واحدة فيندرج الشّمّ في الأنف كالبصر مع العين‏.‏

إثبات شرب المسكر بشمّ الرّائحة

8 - اختلف الفقهاء في إثبات الشّرب الّذي يجب به الحدّ بشمّ رائحة الخمر في فم الشّارب‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏أشربة‏)‏‏.‏

شنداخ

انظر‏:‏ إملاك، دعوة

شَهَادَة

التّعريف

1 - من معاني الشّهادة في اللّغة‏:‏ الخبر القاطع، والحضور والمعاينة والعلانية، والقسم، والإقرار، وكلمة التّوحيد، والموت في سبيل اللّه‏.‏ يقال‏:‏ شهد بكذا إذا أخبر به وشهد كذا إذا حضره، أو عاينه إلى غير ذلك‏.‏

وقد يعدّى الفعل - شهد - بالهمزة، فيقال‏:‏ أشهدته الشّيء إشهاداً، أو بالألف، فقال‏:‏ شاهدته مشاهدةً، مثل عاينته وزناً ومعنىً‏.‏

ومن الشّهادة بمعنى الحضور‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏‏.‏

قال القرطبيّ في تفسير هذه الآية‏:‏ وشهد بمعنى حضر‏.‏

ومن الشّهادة بمعنى المعاينة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏}‏‏.‏ قال الرّاغب الأصفهانيّ في شرح معناها‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ‏}‏، يعني مشاهدة البصر‏.‏

ومن الشّهادة بمعنى القسم أو اليمين‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏‏.‏ قال ابن منظور‏:‏ الشّهادة معناها اليمين هاهنا‏.‏

ومن الشّهادة بمعنى الخبر القاطع‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏}‏‏.‏

واستعمالها بهذا المعنى كثير‏.‏

ومن الشّهادة بمعنى الإقرار‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ‏}‏ أي مقرّين فإنّ الشّهادة على النّفس هي الإقرار‏.‏

وتطلق الشّهادة أيضاً على كلمة التّوحيد وهي قولنا‏:‏ لا إله إلاّ اللّه، وتسمّى العبارة‏:‏ أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله بالشّهادتين‏.‏

ومعناهما هنا متفرّع عن مجموع المعنيين - الإخبار والإقرار -، فإن معنى الشّهادة هنا هو الإعلام والبيان لأمر قد علم والإقرار الاعتراف به، وقد نصّ ابن الأنباريّ على أنّ المعنى هو‏:‏ أعلم أن لا إله إلاّ اللّه، وأبيّن أن لا إله إلاّ اللّه، وأعلم وأبيّن أنّ محمّداً مبلّغ للأخبار عن اللّه عزّ وجلّ‏.‏

وسمّي النّطق بالشّهادتين بالتّشهّد، وهو صيغة ‏"‏ تفعّل ‏"‏ من الشّهادة‏.‏

وقد يطلق التّشهّد على التّحيّات الّتي تقرأ في آخر الصّلاة‏.‏

جاء في حديث ابن مسعود‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعلّمهم التّشهّد كما يعلّمهم القرآن «‏.‏

ومن الشّهادة بمعنى العلانية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس أنّه قال في معنى هذه الآية‏:‏ السّرّ والعلانية‏.‏

ومن الشّهادة بمعنى الموت في سبيل اللّه‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ‏}‏‏.‏ فهو شهيد قد رزقه اللّه الشّهادة، جمعه شهداء‏.‏

وفي الاصطلاح الفقهيّ‏:‏ استعمل الفقهاء لفظ الشّهادة في الإخبار بحقّ للغير على النّفس، وبيان ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏إقرار‏)‏‏.‏

واستعملوا اللّفظ في الموت في سبيل اللّه وبيانه في مصطلح‏:‏ ‏(‏شهيد‏)‏‏.‏

واستعملوه في القسم كما في اللّعان، وبيانه في‏:‏ ‏(‏اللّعان‏)‏‏.‏

كما استعمل الفقهاء لفظ الشّهادة في الإخبار بحقّ للغير على الغير في مجلس القضاء، وهو موضوع البحث في هذا المصطلح‏.‏

واختلفوا في تعريف الشّهادة بهذا المعنى‏:‏

فعرّفها الكمال من الحنفيّة بأنّها‏:‏ إخبار صدق لإثبات حقّ بلفظ الشّهادة في مجلس القضاء‏.‏ وعرّفها الدّردير من المالكيّة‏:‏ بأنّها إخبار حاكم من علم ليقضي بمقتضاه‏.‏

وعرّفها الجمل من الشّافعيّة بأنّها‏:‏ إخبار بحقّ للغير على الغير بلفظ أشهد‏.‏

وعرّفها الشّيبانيّ من الحنابلة بأنّها‏:‏ الإخبار بما علمه بلفظ أشهد أو شهدت‏.‏

وتسميتها بالشّهادة إشارة إلى أنّها مأخوذة من المشاهدة المتيقّنة، لأنّ الشّاهد يخبر عن ما شاهده والإشارة إليها بحديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال‏:‏ » ذكر عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرّجل يشهد بشهادة، فقال لي‏:‏ يا ابن عبّاس لا تشهد إلاّ على ما يضيء لك كضياء هذه الشّمس وأومأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيده إلى الشّمس «‏.‏

وتسمّى ‏"‏ بيّنةً ‏"‏ أيضاً، لأنّها تبيّن ما التبس وتكشف الحقّ في ما اختلف فيه‏.‏

وهي إحدى الحجج الّتي تثبت بها الدّعوى‏.‏

ألفاظ ذات صلة

الإقرار‏:‏

2 - الإقرار عند جمهور الفقهاء‏:‏ الإخبار عن ثبوت حقّ للغير على المخبر‏.‏

الدّعوى‏:‏

3 - الدّعوى‏:‏ قول مقبول عند القاضي يقصد به طلب حقّ قبل الغير أو دفع الخصم عن حقّ نفسه‏.‏

فيجمع كلاً من الإقرار والدّعوى والشّهادة، أنّها إخبارات‏.‏

والفرق بينها‏:‏ أنّ الإخبار إن كان عن حقّ سابق على المخبر، ويقتصر حكمه عليه فإقرار، وإن لم يقتصر، فإمّا أن لا يكون للمخبر فيه نفع، وإنّما هو إخبار عن حقّ لغيره على غيره فهو الشّهادة، وإمّا أن يكون للمخبر نفع فيه لأنّه إخبار بحقّ له فهو الدّعوى، انظر‏:‏ الموسوعة الفقهيّة مصطلح‏:‏ ‏(‏إقرار 6 /67‏)‏‏.‏

البيّنة‏:‏

4 - البيّنة‏:‏ عرّفها الرّاغب بأنّها‏:‏ الدّلالة الواضحة عقليّةً أو محسوسةً‏.‏

وعرّفها المجدويّ البركتيّ بأنّها‏:‏ الحجّة القويّة والدّليل‏.‏

وقال ابن القيّم‏:‏ البيّنة في الشّرع‏:‏ اسم لما يبيّن الحقّ ويظهره‏.‏ وهي تارةً تكون أربعة شهود، وتارةً ثلاثةً بالنّصّ في بيّنة المفلّس، وتارةً شاهدين وشاهداً واحداً وامرأةً واحدةً ونكولاً ويميناً أو خمسين يميناً أو أربعة أيمان، وتكون شاهد الحال - أي القرائن - في صور كثيرة‏.‏

وبذلك تكون البيّنة على هذا أعمّ من الشّهادة‏.‏

الحكم التّكليفيّ

5- تحمّل الشّهادة وأداؤها فرض على الكفاية، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏‏.‏

ولأنّ الشّهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات‏.‏ فإذا قام بها العدد الكافي - كما سيأتي - سقط الإثم عن الجماعة، وإن امتنع الجميع أثموا كلّهم‏.‏

وإنّما يأثم الممتنع إذا لم يتضرّر بالشّهادة، وكانت شهادته تنفع‏.‏

فإذا تضرّر في التّحمّل أو الأداء، أو كانت شهادته لا تنفع، بأن كان ممّن لا تقبل شهادته، أو كان يحتاج إلى التّبذّل في التّزكية ونحوها، لم يلزمه ذلك، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا ضرر ولا ضرار «‏.‏

وإن كان ممّن لا تقبل شهادته لم يجب عليه، لأنّ مقصود الشّهادة لا يحصل منه‏.‏

وقد يكون تحمّلها وأداؤها أو أحدهما فرضاً عينيّاً إذا لم يكن هناك غير ذلك العدد من الشّهود الّذي يحصل به الحكم، وخيف ضياع الحقّ‏.‏

وهذا الحكم هو في الشّهادة على حقوق العباد، أمّا حقوق اللّه فتنظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏أداء ف/ 26، ج /2، ص /340‏)‏ لبيان الخلاف في أفضليّة الشّهادة أو السّتر‏.‏

مشروعيّة الشّهادة

6 - ثبتت مشروعيّة الشّهادة بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول‏.‏

أمّا الكتاب‏:‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ‏}‏‏.‏

وأمّا السّنّة‏:‏ فأحاديث كثيرة منها حديث وائل بن حجر - رضي الله تعالى عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ » شاهداك أو يمينه «‏.‏

وحديث عبد اللّه بن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه « والبيّنة هي الشّهادة‏.‏

وقد انعقد الإجماع على مشروعيّتها لإثبات الدّعاوى‏.‏

أمّا المعقول‏:‏ فلأنّ الحاجة داعية إليها لحصول التّجاحد بين النّاس، فوجب الرّجوع إليها‏.‏

أركان الشّهادة

7 - أركان الشّهادة عند الجمهور خمسة أمور‏:‏

الشّاهد، والمشهود له، والمشهود عليه، والمشهود به، والصّيغة‏.‏

وركنها عند الحنفيّة‏:‏ اللّفظ الخاصّ، وهو لفظ ‏"‏ أشهد ‏"‏ عندهم‏.‏

سبب أداء الشّهادة

8 - سبب أداء الشّهادة طلب المدّعي الشّهادة من الشّاهد، أو خوف فوت حقّ المدّعي إذا لم يعلم المدّعي كونه شاهداً‏.‏

حجّيّة الشّهادة

9 - الشّهادة حجّة شرعيّة تظهر الحقّ ولا توجبه‏.‏ ولكن توجب على الحاكم أن يحكم بمقتضاها‏.‏ لأنّها إذا استوفت شروطها مظهرة للحقّ والقاضي مأمور بالقضاء بالحقّ‏.‏

شروط الشّهادة

10 - للشّهادة نوعان من الشّروط‏:‏

شروط تحمّل، وشروط أداءً‏.‏

فأمّا شروط التّحمّل‏:‏ فمنها‏:‏

11 - أن يكون الشّاهد عاقلاً وقت التّحمّل، فلا يصحّ تحمّلها من مجنون وصبيّ لا يعقل، لأنّ تحمّل الشّهادة عبارة عن فهم الحادثة وضبطها، ولا يحصل ذلك إلاّ بآلة الفهم والضّبط، وهي العقل‏.‏

12 - أن يكون بصيراً، فلا يصحّ التّحمّل من الأعمى عند الحنفيّة‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة إلى صحّة تحمّله فيما يجري فيه التّسامع إذا تيقّن الصّوت وقطع بأنّه صوت فلان‏.‏

13 - أن يكون التّحمّل عن علم، أو عن معاينة للشّيء المشهود به بنفسه لا بغيره‏:‏ لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال‏:‏ » ذكر عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرّجل يشهد بشهادة، فقال لي‏:‏ يا ابن عبّاس، لا تشهد إلاّ على ما يضيء لك كضياء هذه الشّمس وأومأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيده إلى الشّمس «‏.‏

ولا يتمّ ذلك إلاّ بالعلم، أو المعاينة، إلاّ فيما تصحّ فيه الشّهادة بالتّسامع، كالنّكاح، والنّسب، والموت، وغير ذلك ممّا نصّ عليه الفقهاء‏.‏ أمّا ما سوى ذلك فتشترط فيه المعاينة‏.‏

ونصّ الفقهاء على أنّه لا يجوز للشّاهد أن يشهد بما رآه من خطّ نفسه إلاّ إذا تذكّر ذلك وتيقّن منه، لأنّ الخطّ يشبه الخطّ، والختم يشبه الختم، كثيراً ما يقع التّزوير، فلا معوّل إلاّ على التّذكّر‏.‏

وذهب أبو يوسف ومحمّد إلى جواز شهادته على ما يجده من خطّ نفسه‏.‏

وعن أحمد في ذلك روايتان‏.‏

وهذه المسألة مبنيّة على مسألة القاضي يجد في ديوانه شيئاً لا يحفظه، كإقرار رجل أو شهادة شهود، أو صدور حكم منه وقد ختم بختمه، فإنّه لا يقضي بذلك عند أبي حنيفة، وعندهما يقضي به‏.‏

14 - ولا يشترط للتّحمّل‏:‏ البلوغ، والحرّيّة، والإسلام، والعدالة، حتّى لو كان الشّاهد وقت التّحمّل صبيّاً عاقلاً، أو عبداً، أو كافراً، أو فاسقاً، ثمّ بلغ الصّبيّ، وأعتق العبد، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق، فشهدوا عند القاضي قبلت شهادتهم‏.‏

15 - وأمّا شروط الأداء‏:‏

فمنها ما يرجع إلى الشّاهد‏.‏

ومنها ما يرجع إلى الشّهادة‏.‏

ومنها ما يرجع إلى المشهود به‏.‏

ومنها ما يرجع إلى النّصاب - أي عدد الشّهود -‏.‏

أوّلاً‏:‏ ما يرجع إلى الشّاهد

أن يكون الشّاهد أهلاً للشّهادة، وذلك بتوفّر شروطها فيه‏.‏

ومن تلك الشّروط‏:‏

أ - البلوغ‏:‏

16 - فلا تصحّ شهادة الأطفال والصّبيان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ‏}‏‏.‏

والصّبيّ ليس من الرّجال لقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ » رفع القلم عن ثلاثة‏:‏ عن النّائم حتّى يستيقظ، وعن الصّغير حتّى يكبر، وعن المجنون حتّى يعقل أو يفيق «‏.‏

ولأنّه إذا لم يؤمن على حفظ أمواله، فلأن لا يؤمن على حفظ حقوق غيره أولى‏.‏

وذهب بعض المالكيّة وبعض الحنابلة إلى جواز شهادة الصّبيان فيما بينهم في الجراح والقتل قبل أن يتفرّقوا، وزاد المالكيّة‏:‏ أن يتّفقوا في شهادتهم، وأن لا يدخل بينهم كبير، واختلف في إناثهم‏.‏

ب - العقل‏:‏

17 - فلا تصحّ شهادة غير العاقل إجماعاً، لأنّه لا يعقل ما يقوله ولا يصفه‏.‏

وسواء أذهب عقله بجنون أو سكر وذلك لأنّه ليس بمحصّل ولا تحصل الثّقة بقوله، ولأنّه لا يأثم بكذبه في الجملة، ولا يتحرّز منه‏.‏

ج - الحرّيّة‏:‏

18 - فلا تجوز شهادة من فيه رقّ عند جمهور الفقهاء، كسائر الولايات، إذ في الشّهادات نفوذ قول على الغير، وهو نوع ولاية، ولأنّ من فيه رقّ مشتغل بخدمة سيّده فلا يتفرّغ لأداء الشّهادة‏.‏

وذهب الحنابلة إلى قبول شهادته في كلّ شيء إلاّ في الحدود والقصاص‏.‏

وانظر مصطلح‏:‏ ‏(‏رقّ ج 23 ص 81‏)‏‏.‏

د - البصر‏:‏

19 - فلا تصحّ شهادة الأعمى عند الحنفيّة مطلقاً‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا تصحّ شهادة الأعمى في الأفعال، لأنّ طريق العلم بها البصر، وكذا في الأقوال إلاّ فيما يثبت بالاستفاضة، لأنّها مستندها السّماع وليس الرّؤية، وإلاّ في التّرجمة بحضرة القاضي لأنّه يفسّر ما سمعه‏.‏

وعند المالكيّة تجوز شهادته في الأقوال دون الأفعال فيما لا يشتبه عليه من الأقوال إذا كان فطناً، ولا تشتبه عليه الأصوات، وتيقّن المشهود له، والمشهود عليه، فإن شكّ في شيء منها فلا تجوز شهادته‏.‏

وعند الحنابلة تجوز شهادة الأعمى إذا تيقّن الصّوت لأنّه رجل عدل مقبول الرّواية فقبلت شهادته كالبصير، ولأنّ السّمع أحد الحواسّ الّتي يحصل بها اليقين، وقد يكون المشهود عليه من ألفه الأعمى، وكثرت صحبته له، وعرف صوته يقيناً، فيجب أن تقبل شهادته، فيما تيقّنه كالبصير، ولا سبيل إلى إنكار حصول اليقين في بعض الأحوال‏.‏

وذهب زفر من الحنفيّة - وهو رواية عن أبي حنيفة - إلى قبول شهادته فيما يجري فيه التّسامع، لأنّ الحاجة فيه إلى السّماع، ولا خلل فيه‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الأعمى لو تحمّل شهادةً تحتاج إلى البصر، وهو بصير، ثمّ عمي فإن تحمّل على رجل معروف بالاسم والنّسب يقرّ لرجل بهذه الصّفة، فله أن يشهد بعدما عمي، وتقبل شهادته لحصول العلم، وإن لم يكن كذلك لم تقبل‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّه إن تيقّن صوته لكثرة إلفه له صحّ أن يشهد به‏.‏

وكذلك الحكم إن شهد عند الحاكم، وهو بصير، ثمّ عمي قبل الحكم بشهادته، جاز الحكم بها عندهم، وعند أبي يوسف من الحنفيّة، وذلك لأنّه معنىً طرأ بعد أداء الشّهادة فلا يمنع الحكم بها، كما لو مات الشّاهدان أو غابا بعد أداء الشّهادة‏.‏

وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى عدم قبول شهادته في الحالتين السّابقتين، لأنّ قيام الأهليّة شرط وقت القضاء لتصير حجّةً‏.‏

هـ – الإسلام‏:‏

20 – الأصل أن يكون الشّاهد مسلماً فلا تقبل شهادة الكفّار سواء أكانت الشّهادة على مسلم أم على غير مسلم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏‏.‏ والكافر ليس بعدل وليس منّا ولأنّه أفسق الفسّاق ويكذب على اللّه تعالى فلا يؤمن منه الكذب على خلقه‏.‏

وعلى هذا الأصل جرى مذهب المالكيّة والشّافعيّة والرّواية المشهورة عن أحمد‏.‏

لكنّهم استثنوا من هذا الأصل شهادة الكافر على المسلم في الوصيّة في السّفر فقد أجازوها عملاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ‏}‏‏.‏

وأجاز الحنفيّة شهادة الذّمّيّين بعضهم على بعض، وإن اختلفت مللهم، وشهادة الحربيّين على أمثالهم‏.‏

وأمّا المرتدّ فلا تقبل شهادته مطلقاً‏.‏

و - النّطق‏:‏

21 - فلا تصحّ شهادة الأخرس عند جمهور الفقهاء‏.‏

وذهب مالك إلى صحّة شهادته إذا عرفت إشارته ويرى الحنابلة قبول شهادة الأخرس إذا أدّاها بخطّه‏.‏

ز - العدالة‏:‏

22 - لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط عدالة الشّهود لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏‏.‏ ولهذا لا تقبل شهادة الفاسق‏.‏

والعدالة عرّفها المالكيّة بالمحافظة الدّينيّة على اجتناب الكبائر وتوقّي الصّغائر وأداء الأمانة وحسن المعاملة وأن يكون صلاحه أكثر من فساده وهي شرط وجوب القبول‏.‏

وعرّفها الحنابلة بالصّلاح في الدّين وهو‏:‏ أداء الفرائض برواتبها، واجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصّغائر، ويعتبر فيها أيضاً استعمال المروءة بفعل ما يجمّله ويزيّنه، وترك ما يدلّسه ويشينه‏.‏

واعتبر الشّافعيّة المروءة شرطاً مستقلاً‏.‏

وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏عدالة‏)‏‏.‏

والعدالة شرط وجوب القبول على القاضي لا جوازه‏.‏ فإذا توفّرت في الشّاهد وجب على القاضي أن يأخذ بشهادته‏.‏

وقال الشّافعيّ‏:‏ إذا كان الأغلب على الرّجل والأظهر من أمره الطّاعة والمروءة قبلت شهادته، وإن كان الأغلب على الرّجل والأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة ردّت شهادته‏.‏

ح - التّيقّظ‏:‏ أو الضّبط‏:‏

23 - لا تقبل شهادة مغفّل لا يضبط أصلاً أو غالباً لعدم التّوثّق بقوله، أمّا من لا يضبط نادراً والأغلب فيه الحفظ والضّبط فتقبل قطعاً، لأنّ أحداً لا يسلم من ذلك‏.‏

ط - ألاّ يكون محدوداً في قذف‏:‏

24 - وذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

فإن تاب وأصلح‏:‏

فقد ذهب الجمهور إلى قبول شهادته لقوله تعالى بعد الآية السّابقة مباشرةً‏:‏ ‏{‏إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى عدم قبول شهادته ولو تاب‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا تقبل شهادة المحدود فيما حدّ فيه وتقبل فيما عداه إن تاب‏.‏

ومناط الخلاف في هذه الآية في ورود الاستثناء بعد مذكورين أيشملهم كلّهم أم يعود إلى أقرب مذكور‏؟‏

فعند الحنفيّة أنّ الاستثناء يعود إلى الأخير وهو هنا التّوبة من الفسق فقط‏.‏

وعند الجمهور يعود إلى جميع ما ذكر‏.‏

واستدلّ الجمهور بقول عمر – رضي الله تعالى عنه – لمن جلده في شهادته على المغيرة بن شعبة بقوله‏:‏ تب أقبل شهادتك‏.‏

وهي مسألة أصوليّة معروفة‏.‏

ي - الذّكورة في الشّهادة على الحدود والقصاص‏:‏

25 - يشترط الذّكورة في الشّهادة على الحدود والقصاص‏.‏

لما رواه مالك عن الزّهريّ‏:‏ مضت السّنّة بأن لا شهادة للنّساء في الحدود والقصاص‏.‏

ك - عدم التّهمة‏:‏

26 - للتّهمة أسباب منها‏:‏

أ - أن يجرّ بشهادته إلى نفسه نفعاً أو يدفع ضرّاً، فلا تقبل شهادة الوارث لمورّثه بجرح قبل اندماله، ولا الضّامن للمضمون عنه بالأداء، ولا الإبراء، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا تقبل شهادة أحد الزّوجين للآخر وخالف في هذا الشّافعيّة‏.‏

ب - البعضيّة‏:‏ فلا تقبل شهادة أصل لفرعه، ولا فرع لأصله، وتقبل شهادة أحدهما على الآخر‏.‏

ج - العداوة‏:‏ فلا تقبل شهادة عدوّ على عدوّه، والمراد بالعداوة هنا، العداوة الدّنيويّة لا الدّينيّة، فتقبل شهادة المسلم على الكافر، والسّنّيّ على المبتدع، وكذا من أبغض الفاسق لفسقه لا تردّ شهادته عليه والعداوة الّتي تردّ بها الشّهادة أن تبلغ حدّاً يتمنّى زوال نعمته ويفرح لمصيبته، ويحزن لمسرّته، وذلك قد يكون من الجانبين وقد يكون من أحدهما، فيخصّ بردّ شهادته على الآخر، وتقبل شهادة العدوّ لعدوّه إذ لا تهمة‏.‏

د - أن يدفع بالشّهادة عن نفسه عار الكذب، فإن شهد فاسق وردّ القاضي شهادته ثمّ تاب بشروط التّوبة فشهادته المستأنفة مقبولة بعد ذلك، ولو أعاد تلك الشّهادة الّتي ردّت لم تقبل‏.‏

هـ – الحرص على الشّهادة بالمبادرة من غير تقدّم دعوى، وذلك في غير شهادة الحسبة‏.‏

و – العصبيّة‏:‏ فلا تقبل شهادة من عرف بها وبالإفراط في الحميّة كتعصّب قبيلة على قبيلة وإن لم تبلغ رتبة العداوة‏.‏ نصّ على ذلك الحنابلة‏.‏

واستدلّوا لاشتراط عدم التّهمة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت «‏.‏

ثانياً‏:‏ ما يرجع من شروط الأداء إلى الشّهادة نفسها

ومن ذلك‏:‏

27 - أ - اشتراط وجود الدّعوى في الشّهادة على حقوق العباد من المدّعي أو نائبه‏.‏ أمّا الشّهادة على حقوق اللّه تعالى فلا يشترط فيها وجود الدّعوى على رأي جمهور الفقهاء‏.‏

ب - موافقتها للدّعوى - كما سيرد تفصيله -‏.‏

ج - العدد في الشّهادة فيما يطّلع عليه الرّجال‏.‏

د - اتّفاق الشّاهدين - كما سيرد تفصيله -‏.‏

هـ – تعذّر حضور الأصل – وهذا في الشّهادة على الشّهادة - كما سيأتي‏.‏

و - أن تؤدّى بلفظ الشّهادة بأن يقول‏:‏ أشهد بكذا وهذا قول الجمهور، والأظهر عند المالكيّة أنّه يكفي ما يدلّ على حصول علم الشّاهد كأن يقول‏:‏ رأيت كذا أو سمعت كذا ولا يشترط أن يقول‏:‏ أشهد‏.‏

ثالثاً‏:‏ ما يرجع من شروط الأداء إلى المشهود به

يشترط في المشهود به‏:‏

28 - أ - أن يكون معلوماً، فإن كانت الشّهادة بمجهول فلا تقبل‏.‏ وذلك لأنّ شرط صحّة قضاء القاضي أن يكون المشهود به معلوماً‏.‏

ب - كون المشهود به مالاً أو منفعةً فلا بدّ أن يكون متقوّماً شرعاً‏.‏

رابعاً‏:‏ ما يرجع من شروط الأداء إلى نصاب الشّهادة

29 - يختلف عدد الشّهود في الشّهادات بحسب الموضوع المشهود به‏:‏

أ - من الشّهادات ما لا يقبل فيه أقلّ من أربعة رجال، لا امرأة بينهم وذلك في الزّنا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء‏}‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء‏}‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ‏}‏‏.‏

وعن أبي هريرة‏:‏ » أنّ سعد بن عبادة قال يا رسول اللّه إن وجدت مع امرأتي رجلاً أأمهله حتّى آتي بأربعة شهداء‏؟‏ قال‏:‏ نعم «‏.‏

ب – نصّ الحنابلة على أنّه إذا ادّعى من عرف بغنىً أنّه فقير لأخذ زكاة فلا بدّ من شهادة ثلاثة رجال، يشهدون له‏.‏ لحديث قبيصة‏:‏ » حتّى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه‏:‏ لقد أصابت فلاناً فاقة «‏.‏

ج - ومنها ما يقبل فيه شاهدان لا امرأة فيهما، وهو ما سوى الزّنى من الحدود والقصاص، كالقطع في السّرقة، وحدّ الحرابة، والجلد في الخمر، وهذا باتّفاق الفقهاء‏.‏

وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ما يطّلع عليه الرّجال غالباً، ممّا ليس بمال ولا يقصد منه مال‏:‏ كالنّكاح، والطّلاق، والرّجعة، والإيلاء، والظّهار، والنّسب، والإسلام، والرّدّة، والجرح، والتّعديل، والموت والإعسار، والوكالة، والوصاية، والشّهادة على الشّهادة، ونحو ذلك، فإنّه يثبت عندهم بشهادة شاهدين لا امرأة فيهما‏.‏

ودليلهم في ذلك أنّ اللّه تعالى نصّ على شهادة الرّجلين في الطّلاق والرّجعة والوصيّة‏.‏

فأمّا الطّلاق والرّجعة فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏‏.‏

وأمّا الوصيّة فقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏‏.‏

وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في النّكاح‏:‏ » لا نكاح إلاّ بوليّ وشاهدي عدل «‏.‏

وروى مالك عن الزّهريّ أنّه قال‏:‏ مضت السّنّة بأنّه لا تجوز شهادة النّساء في الحدود ولا في النّكاح والطّلاق‏.‏

وقيس عليها ما شاركها في الشّرط المذكور‏.‏

د - وقال الحنفيّة‏:‏ ما يقبل فيه شاهدان، أو شاهد وامرأتان هو ما سوى الحدود والقصاص سواء أكان الحقّ مالاً أم غير مال، كالنّكاح والطّلاق والعتاق والوكالة والوصاية‏.‏

ودليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء‏}‏‏.‏

وقصر الجمهور قبول شهادة الرّجلين أو الرّجل والمرأتين على ما هو مال أو بمعنى المال، كالبيع، والإقالة، والحوالة، والضّمان، والحقوق الماليّة، كالخيار، والأجل، وغير ذلك‏.‏ وأجازوا فيه أن يثبت بشاهد واحد ويمين المدّعي‏.‏

ودليلهم في ذلك‏:‏ » أنّه صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد «‏.‏

ولم يجز الحنفيّة القضاء بالشّاهد واليمين وذهبوا إلى أنّ القاضي إذا قضى بالشّاهد واليمين لا ينفذ قضاؤه، لأنّ الآثار الّتي وردت في هذا الشّأن لا تثبت عندهم‏.‏

هـ – ومنها ما تقبل فيه شهادة النّساء منفردات، وهو الولادة والاستهلال والرّضاع، وما لا يجوز أن يطّلع عليه الرّجال الأجانب من العيوب المستورة‏.‏

ولكنّهم اختلفوا في العدد الّذي تثبت به هذه الأمور من النّساء على خمسة أقوال‏:‏

الأوّل‏:‏ ذهب الحسن البصريّ إلى أنّه تقبل في الولادة شهادة القابلة وحدها، ولا تقبل شهادة غير القابلة إلاّ مع غيرها‏.‏ وهو مرويّ عن ابن عبّاس، ورواية عن أحمد‏.‏

الثّاني‏:‏ ذهب أبو حنيفة إلى أنّه تقبل في ذلك شهادة امرأة واحدة مسلمة حرّة عدلة قابلةً كانت أو غيرها، إلاّ ولادة المطلّقة فلا تقبل فيها شهادة الواحدة استدلالاً بما روي عن حذيفة - رضي الله عنه -‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة «‏.‏

وبما روي عن عمر وعليّ - رضي الله تعالى عنهما - أنّهما أجازا شهادتها‏.‏

الثّالث‏:‏ ذهب مالك، والحكم، وابن شبرمة وابن أبي ليلى، وأحمد في إحدى روايتيه إلى أنّه تقبل في ذلك شهادة امرأتين ولا يشترط أكثر من ذلك، لأنّهنّ لمّا قمن في انفرادهنّ مقام الرّجال، وجب أن يقمن في العدد مقام الرّجال، وأكثر عدد الرّجال اثنان، فاقتضى أن يكون أكثر عدد النّساء اثنتين‏.‏

الرّابع‏:‏ هو ما حكي عن عثمان البتّيّ أنّه تقبل ثلاث نسوة، ولا يقبل أقلّ منهنّ، وهو مرويّ عن أنس‏.‏

واستدلّ لذلك بأنّ اللّه ضمّ شهادة المرأتين إلى الرّجل في الموضع الّذي لا ينفردن فيه فوجب أن يستبدل الرّجل بالمرأة في الموضع الّذي ينفردن فيه فيصرن ثلاثاً‏.‏

الخامس‏:‏ ذهب الشّافعيّ وعطاء إلى أنّه لا يقبل في ذلك أقلّ من أربع نسوة‏.‏

قال الشّافعيّ‏:‏ لأنّ اللّه عزّ وجلّ حيث أجاز الشّهادة انتهى بأقلّها إلى شاهدين، أو شاهد وامرأتين، فأقام الثّنتين مقام رجل، حيث أجازهما فإذا أجاز المسلمون شهادة النّساء فيما يغيب عن الرّجال لم يجز واللّه أعلم أن يجيزوها إلاّ على أصل حكم اللّه عزّ وجلّ في الشّهادات، فيجعلون كلّ امرأتين تقومان مقام رجل، وإذا فعلوا لم يجز إلاّ أربع، وهكذا المعنى في كتاب اللّه - عزّ ذكره - وما أجمع عليه المسلمون‏.‏

و - ومنها ما تقبل فيه شهادة شاهد واحد، فتقبل شهادة الشّاهد الواحد العدل بمفرده في إثبات رؤية هلال رمضان استدلالاً بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال‏:‏ » تراءى النّاس الهلال، فأخبرت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّي رأيته فصامه وأمر النّاس بصيامه «‏.‏

وبحديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّه قال‏:‏ » جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّي رأيت الهلال، فقال‏:‏ أتشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏؟‏ وأتشهد أنّ محمّداً رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ يا بلال أذّن في النّاس أن يصوموا غداً «‏.‏

وهو أحد قولي الشّافعيّ والمشهور عن أحمد، وبه قال الحنفيّة‏:‏ إن كان بالسّماء علّة من غيم أو غبار ونحو ذلك‏.‏

ويرى المالكيّة والحنابلة أنّه تقبل شهادة الطّبيب الواحد في الشّجاج، والبيطار في عيوب الدّوابّ‏.‏

وقيّده المالكيّة بما إذا كان بتكليف من الإمام‏.‏

وقيّده الحنابلة بما إذا لم يوجد غيره‏.‏

حكم الإشهاد

30 - فرّق الفقهاء في وجوب الإشهاد على العقود بين عقود النّكاح وغيرها‏:‏

فذهب جمهورهم إلى أنّ الإشهاد على عقد النّكاح واجب وشرط في صحّته، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا نكاح إلاّ بوليّ وشاهدي عدل «‏.‏

وذهب مالك إلى أنّ الإشهاد غير واجب إذا تمّ الإعلان‏.‏

أمّا عقود البيوع، فقد ذهب أبو موسى الأشعريّ، وابن عمر، والضّحّاك، وسعيد بن المسيّب، وجابر بن زيد، ومجاهد إلى أنّ الإشهاد واجب‏.‏

قال عطاء‏:‏ أَشْهِد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث درهم أو أقلّ من ذلك، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏‏.‏

وذهب كثير من الصّحابة والتّابعين، وجمهور الفقهاء والمفسّرين، إلى أنّ الأمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ للنّدب وليس للوجوب، لورود الآية الّتي بعدها وهي قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ‏}‏‏.‏ فدلّ ذلك على أنّ الأمر فيها محمول على الاستحباب‏.‏ ولما ورد عن جابر‏:‏ » أنّه باع النّبيّ صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى المدينة «‏.‏ فدلّ ظاهر الحديث أنّه لم يشهد‏.‏

وقد باع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأشهد، وباع في أحيان أخرى واشترى، ورهن درعه عند يهوديّ، ولم يشهد‏.‏

ولو كان الإشهاد أمراً واجباً لوجب مع الرّهن لخوف المنازعة‏.‏

قال ابن عطيّة‏:‏ ‏"‏ والوجوب في ذلك قلق، أمّا في الدّقائق فصعب شاقّ، وأمّا ما كثر فربّما يقصد التّاجر الاستئلاف بترك الإشهاد، وقد يكون عادةً في بعض البلاد، وقد يستحى من العالم والرّجل الكبير الموقّر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كلّه في الائتمان، ويبقى الأمر بالإشهاد ندباً لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه ‏"‏‏.‏

مستند علم الشّاهد

31 - الأصل في الشّهادة أن تكون عن مشاهدة وعيان، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى حكايةً عن إخوة يوسف‏:‏ ‏{‏وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا‏}‏‏.‏

فأخبر سبحانه وتعالى أنّ الشّهادة تكون بالعلم، ولا تصحّ بغلبة الظّنّ‏.‏

ويستدلّ لذلك بحديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال‏:‏ » ذكر عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرّجل يشهد بشهادة، فقال لي‏:‏ يا ابن عبّاس لا تشهد إلاّ على ما يضيء لك كضياء هذه الشّمس وأومأ رسول اللّه بيده إلى الشّمس «‏.‏

وهذا يدلّ على أنّ الشّهادة يجب أن يكون مستندها أقوى أسباب العلم وهي المشاهدة والعلم اليقينيّ‏.‏

لكنّ الأمور المشهود بها قد تتفاوت فيما بينها في تحصيل العلم بها‏:‏

فمنها ما شأنه أن يعاينه الشّاهد كالقتل، والسّرقة، والغصب، والرّضاع، والزّنى، وشرب الخمر‏.‏ فلا يصحّ أن يشهد الشّاهد هذه الأمور إلاّ بالمعاينة ببصره‏.‏

فمنها أمور لا يصحّ للشّاهد أن يشهد بها إلاّ بالسّماع والمعاينة، وإليه ذهب الجمهور في عقود النّكاح، والبيوع، والإجارات، والطّلاق، لأنّ الأصوات قد تشتبه، ويكتفي الحنابلة فيها بالسّماع إذا عرف المتعاقدين يقيناً وتيقّن أنّه كلامهما‏.‏

ومنها ما يحصل علمه بها عن طريق سماع الأخبار الشّائعة المتواترة والمستفيضة، المرتبة السّابقة يكون مصدرها سماعاً مستفيضاً لم يبلغ في استفاضته حدّ الأولى، وهذه المرتبة هي المقصود بكلام الفقهاء عند إطلاقهم الحديث على شهادة السّماع، أو الشّهادة بالسّماع، أو بالتّسامع‏.‏ وهي الّتي قالوا في تعريفها‏:‏ ‏"‏ إنّها لقب لما يصرّح الشّاهد فيه باستناد شهادته لسماع من غير معيّن فتخرج - بذلك - شهادة البتّ والنّقل ‏"‏‏.‏

وقد اتّفقوا على جواز اعتمادها قضاءً للضّرورة، أو الحاجة في حالات خاصّة اختلفت كما باختلاف المذاهب في تحديد مواضع الحاجة، وضبط القيود الّتي تعود إليها، والثّابت عند الدّارسين أنّ أكثر المذاهب الإسلاميّة تسامحاً في الأخذ بها هو المذهب المالكيّ‏.‏

وأفاض المالكيّة في القول فيها أكثر من غيرهم، حيث بيّن غير واحد منهم أنّ النّظر في شهادة السّامع يتناول الجوانب التّالية‏:‏

الأوّل‏:‏ الصّفة الّتي تؤدّى بها

32 - الرّاجح عند المالكيّة الّذي عليه المعوّل أن يقول الشّهود - عند تأديتها -‏:‏ ‏"‏ سمعنا سماعاً فاشياً من أهل العدالة وغيرهم أنّ هذه الدّار - مثلاً - صدقة على بني فلان ‏"‏، أي‏:‏ لا بدّ من الجمع بين العدول، وغير العدول في المنقول عنهم‏.‏ ويرى بعضهم أنّ عليهم أن يقولوا‏:‏ ‏"‏ إنّا لم نزل نسمع من الثّقات، أو سمعنا سماعاً فاشياً من أهل العدل ‏"‏‏.‏

وهو رأي مرجوح عندهم، لأنّ حصر مصدر سماعهم في الثّقات والعدول يخرجها من السّماع إلى النّقل وهو موضوع آخر‏.‏

قال ابن فرحون‏:‏ ولا يكون السّماع بأن يقولوا‏:‏ ‏"‏ سمعنا من أقوام بأعيانهم ‏"‏ يسمّونهم أو يعرفونهم، إذ ليست - حينئذ - شهادة تسامع بل هي شهادة على شهادة، فتخرج عن حدّ شهادة السّماع‏.‏

وظاهر المدوّنة الاكتفاء بقولهم‏:‏ ‏"‏ سمعنا سماعاً فاشياً ‏"‏‏.‏ دون احتياج إلى إضافة ‏"‏ من الثّقات وغيرهم ‏"‏ حيث لا عبرة بذكر كالنّسب، والملك، والموت، والوقف‏.‏ فيجوز للشّاهد أن يشهد بها معتمداً على التّسامع‏.‏

الشّهادة بالسّماع والتّسامع

الشّهادة بالتّسامع عند التّحقيق تنقسم إلى ثلاث مراتب باعتبار درجة العلم الحاصل بها‏:‏

المرتبة الأولى‏:‏

33 - تفيد علماً جازماً مقطوعاً به وهي المعبّر عنها‏:‏ بشهادة السّماع المتواتر كالسّماع بوجود مكّة والمدينة وبغداد والقاهرة والقيروان ونحوها من المدن القديمة الّتي ثبت القطع بوجودها سماعاً عند كلّ من لم يشاهدها مشاهدةً مباشرةً فهذه عند حصولها تكون - من حيث وجوب القبول والاعتبار - بمنزلة الشّهادة إجماعاً‏.‏

المرتبة الثّانية‏:‏

34 - تفيد ظنّاً قويّاً يقرب من القطع وهي المعبّر عنها‏:‏ بالاستفاضة من الخلق الغفير‏:‏ كالشّهادة بأنّ نافعاً مولى ابن عمر وأنّ عبد الرّحمن بن القاسم من أوثق من أخذ عن الإمام مالك، وأنّ أبا يوسف يعتبر الصّاحب الأوّل لأبي حنيفة، وقد ذهب الفقهاء إلى قبول هذه المرتبة ووجوب العمل بمقتضاها من ذلك قولهم‏:‏ إذا رؤي الهلال رؤيةً مستفيضةً من جمّ غفير وشاع أمره بين أهل البلد لزم الفطر أو الصّوم من رآه، ومن لم يره دون احتياج إلى شهادة عند الحاكم ودون توقّف على إثبات تعديل نقلته‏.‏

ومن هذا القبيل أيضاً استفاضة التّعديل والتّجريح عند الحكّام، والمحكومين‏:‏

فمن النّاس من لا يحتاج الحاكم إلى السّؤال عنه لاستفاضة عدالته عنده سماعاً، ومنهم من لا يسأل عنه لاشتهار جرحته، وإنّما يطالب بالكشف عمّن لم يشتهر لا بهذه ولا بتلك‏.‏

وقد تناقل الفقهاء، وأصحاب التّراجم، أنّ ابن أبي حازم شهد عند قاضي المدينة فقال له القاضي‏:‏ أمّا الاسم فاسم عدل ولكن من يعرف أنّك ابن أبي حازم‏؟‏ فدلّ هذا على أنّ عدالة ابن أبي حازم لا تحتاج إلى السّؤال عنها، وهي مشهورة عند القاضي وغيره من النّاس مع أنّه لا يعرف شخصه‏.‏

المرتبة الثّالثة‏:‏

35 - تفيد ظنّاً قويّاً دون الظّنّ المذكور في العدول في المنقول عنهم خلافاً لما يراه مطرّف وابن ماجشون‏.‏

والثّاني‏:‏ شروط قبولها‏:‏

36 - وأهمّها باختصار‏:‏

أ - أن تكون من عدلين فأكثر ويكتفى بهما على المشهور، خلافاً لمن نصّ على أنّه لا يكتفى فيها إلاّ بأربعة عدول‏.‏

ب - السّلامة من الرّيب‏:‏ فإن شهد ثلاثة عدول مثلاً على السّماع وفي الحيّ أو في القبيلة مائة رجل في مثل سنّهم لا يعرفون شيئاً عن المشهود فيه، فإنّ شهادتهم تردّ للرّيبة الّتي حفّت بها، فإذا انتفت الرّيبة قبلت، كما إذا شهد على أمر ما، شيخان قد انقرض جيلهما، فلا تردّ وإن لم يشهد بذلك غيرهما من أهل البلد وكذلك لو شهد عدلان طارئان باستفاضة موت، أو ولاية، أو عزل، قد حدث ببلدهما وليس معهما - في الغربة - غيرهما، فإنّ شهادتهما مقبولة للغرض نفسه‏.‏

ج - أن يكون السّماع فاشياً مستفيضاً، وهذا القدر محلّ اتّفاق بين الفقهاء داخل المذهب المالكيّ وخارجه‏.‏ إلاّ أنّهم قد اختلفوا كما تقدّم في إضافة‏:‏ ‏"‏ من الثّقات وغيرهم ‏"‏ أو ‏"‏ من الثّقات ‏"‏ فقط، أو عدم إضافتهما‏.‏

د - أن يحلف المشهود له‏:‏ فلا يقضي القاضي لأحد بالشّهادة بالتّسامع إلاّ بعد يمينه، لاحتمال أن يكون أصل السّماع الّذي فشا وانتشر منقولاً عن واحد، والشّاهد الواحد لا بدّ معه من اليمين في الدّعاوى الماليّة‏.‏

الثّالث‏:‏ محالّها‏:‏

أي‏:‏ المواضع الّتي تقبل فيها شهادة السّماع‏.‏

37 - سلك فقهاء المالكيّة بالخصوص - لتحديد هذه المحالّ المرويّة في المذهب - ثلاث طرق‏:‏ أحدها‏:‏ للقاضي عبد الوهّاب الّذي يروي أنّها مختصّة بما لا يتغيّر حاله، ولا ينتقل الملك فيه، كالموت، والنّسب، والوقف، ونصّ على قولين في النّكاح‏.‏

الثّانية‏:‏ لابن رشد الجدّ‏:‏ حكى فيها أربعة أقوال‏:‏

تقبل في كلّ شيء، لا تقبل في شيء، تقبل في كلّ شيء ما عدا النّسب، والقضاء والنّكاح والموت، إذ من شأنها أن تستفيض استفاضةً يحصل بها القطع لا الظّنّ، ورابع الأقوال عكس السّابق، لا تقبل إلاّ في النّسب والقضاء، والنّكاح والموت‏.‏

والثّالثة‏:‏ لابن شاس، وابن الحاجب، وجمهور الفقهاء قالوا‏:‏ إنّها تجوز في مسائل معدودة، أوصلها بعضهم إلى عشرين، وبعضهم إلى إحدى وعشرين، وبعضهم إلى اثنتين وثلاثين وأنهاها أحدهم إلى تسع وأربعين‏.‏ منها‏:‏ النّكاح، والحمل، والولادة، والرّضاع، والنّسب، والموت، والولاء، والحرّيّة، والأحباس، والضّرر، وتولية القاضي وعزله، وترشيد السّفيه، والوصيّة، وفي الصّدقات، والأحباس الّتي تقادم أمرها، وطال زمانها، وفي الإسلام والرّدّة، والعدالة، والتّجريح، والملك للحائز‏.‏

أمّا بقيّة الأئمّة فقد أجمعوا على صحّة شهادة التّسامع في النّسب والولادة للضّرورة، قال ابن المنذر‏:‏ أمّا النّسب، فلا أعلم أحدًا من أهل العلم منع منه، ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشّهادة به، إذ لا سبيل إلى معرفته قطعاً بغيره ولا تمكن المشاهدة فيه، ولو اعتبرت المشاهدة لما عرف أحد أباه ولا أمّه ولا أحداً من أقاربه‏.‏

واختلفوا فيما وراء ذلك‏:‏ فقال الحنابلة وبعض أصحاب الشّافعيّ‏:‏ تجوز - بالإضافة إلى المسألتين الأوليين - في تسعة أشياء‏:‏ النّكاح، والملك المطلق، والوقف ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل، معلّلين رأيهم بأنّ هذه الأشياء تتعذّر الشّهادة عليها غالباً بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها، فلو لم تقبل فيها الشّهادة بالتّسامع لأدّى ذلك إلى الحرج والمشقّة، وتعطيل الأحكام وضياع الحقوق‏.‏

ويرى البعض الآخر من أصحاب الشّافعيّ‏:‏ أنّها لا تقبل في الوقف، والولاء، والعتق والزّوجيّة، لأنّ الشّهادة ممكنة فيها بالقطع حيث إنّها شهادة على عقد كبقيّة العقود‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تصحّ إلاّ في النّكاح والموت والنّسب، ولا تقبل في الملك المطلق، لأنّ الشّهادة فيه لا تخرج عن كونها شهادةً بمال، وما دام الأمر كذلك فهو شبيه بالدّين، والدّين لا تقبل فيه شهادة السّماع، وأمّا صاحباه فقد نصّا على قبولها في الولاء مثل عكرمة مولى ابن عبّاس‏.‏

شهادة التّوسّم

38 - قال ابن فرحون‏:‏ التّوسّم مأخوذ من الوسم وهو التّأثير بحديدة في جلد البعير يكون علامةً يستدلّ بها‏.‏

قال ابن حبيب في الواضحة قال لي مطرّف وابن الماجشون‏:‏ في القوافل والرّفاق تمرّ بأمّهات القرى والمدائن فتقع بينهم الخصومة عند حاكم القرية أو المدينة الّتي حلّوا بها، أو مرّوا بها، فإنّ مالكاً وجميع أصحابه أجازوا شهادة من شهد منهم لبعضهم على بعض، ممّن جمعه ذلك السّفر، ووجهة تلك المرافقة وإن لم يعرفوا بعدالة ولا سخطة إلاّ على التّوسّم لهم بالحرّيّة والعدالة وذلك فيما وقع بينهم من المعاملات في ذلك السّفر خاصّةً من الأسلاف والأكرية، والبيوع، والأشربة، كانوا من أهل بلد واحد، أو من أهل بلدين متى كان المشهود عليه والمشهود له من أهل القرية، أو المدينة الّتي اختصموا فيها، أو معروفاً من غيرها إذا كان ممّن جمعه وإيّاهم ذلك السّفر، وكذلك تجوز شهادة بعضهم لبعض على كريّهم في كلّ ما عملوه به وفيه وعليه في ذلك السّفر قالا - أي‏:‏ مطرّف وابن الماجشون -‏:‏ وإنّما أجيزت شهادة التّوسّم على وجه الاضطرار مثل ما أجيزت شهادة النّساء وحدهنّ فيما لا يحضره الرّجال، مثل ما أجيزت شهادة الصّبيان بينهم في الجراحات‏.‏ قالا‏:‏ ولا تجوز شهادة التّوسّم في كلّ حقّ كان ثابتاً في دعواهم قبل سفرهم، إلاّ بالمعرفة والعدالة‏.‏

قال ابن الماجشون‏:‏ ولا يمكّن المشهود عليه من تجريح هؤلاء الشّهود، لأنّهم إنّما أجيزوا على التّوسّم فليس فيهم جرحة إلاّ أن يستريب الحاكم فيهم قبل حكمه بشهادتهم بسبب قطع يد، أو جلد في ظهر فليتثبّت في توسّمه، فإن ظهر له انتفاء تلك الرّيبة، وإلاّ أسقطهم‏.‏ قال‏:‏ ولو شهد شاهد وامرأة، أو عدل، وتوسّم فيهم أنّ هؤلاء الّذين قبلوا بالتّوسّم عبيد أو مسخوطون، فإن كان قبل الحكم تثبّت في ذلك‏:‏ وإن كان بعد الحكم بهم فلا يردّ شيء من ذلك إلاّ أن يشهد عدلان‏:‏ أنّهما كانا عبدين أو مسخوطين قال‏:‏ ولا يقبل بعضهم على بعض في سرقة، ولا زناً، ولا غصب، ولا تلصّص، ولا مشاتمة، وإنّما أجيزت في المال في السّفر للضّرورة‏.‏

قال ابن الفرس في أحكام القرآن، وحكى ابن حبيب ذلك يعني شهادة التّوسّم عن مالك وأصحابه، وهو خلاف ظاهر قول ابن القاسم، وروايته عن مالك أنّه، لم يجز شهادة الغرباء دون أن تعرف عدالتهم‏.‏ انتهى‏.‏

ثمّ قال ابن فرحون‏:‏ ويمكن الجمع بينهما أنّ الّذي رواه ابن القاسم في الغرباء حيث لا تكون ضرورة مثل شهادتهم في الحضر

أخذ الأجرة على الشّهادة

39 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه‏:‏ لا يحلّ للشّاهد أخذ الأجرة على أدائه الشّهادة إذا تعيّنت عليه لأنّ إقامتها فرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ‏}‏‏.‏

أمّا إذا لم تتعيّن عليه، وكان محتاجاً، وكان أداؤها يستدعي ترك عمله وتحمّل المشقّة، فذهب جمهور الفقهاء إلى‏:‏ عدم جواز أخذ الأجرة عليها، لكن له أجرة الرّكوب إلى موضع الأداء‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏

وذهب بعض الشّافعيّة والحنابلة إلى‏:‏ الجواز، وذلك لأنّ إنفاق الإنسان على عياله فرض عين، والشّهادة فرض كفاية، فلا يشتغل عن فرض العين بفرض الكفاية، فإذا أخذ الرّزق جمع بين الأمرين‏.‏ ولأنّ الشّهادة وهي لم تتعيّن عليه يجوز أن يأخذ عليها أجرةً كما يجوز على كتب الوثيقة‏.‏

تعديل الشّهود

40 - لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط العدالة في الشّاهد، ولا في اعتبار العدالة الحقيقيّة الحاصلة بالسّؤال والتّزكية، ولكن اختلفوا في الاكتفاء بالعدالة الظّاهرة‏.‏

وفي تفصيل ذلك ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏تزكية‏)‏‏.‏

تحليف الشّاهد اليمين

41 - قال ابن القيّم‏:‏ حكي عن ابن وضّاح، وقاضي الجماعة بقرطبة، وهو محمّد بن بشر‏:‏ أنّه حلّف شهوداً في تركة ‏"‏ باللّه أنّ ما شهدوا به لحقّ ‏"‏‏.‏ وعن ابن وضّاح أنّه قال‏:‏ أرى لفساد النّاس أن يحلّف الحاكم الشّهود‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ وهذا ليس ببعيد‏.‏ وقد شرع اللّه سبحانه تحليف الشّاهدين إذا كانا من غير أهل الملّة على الوصيّة في السّفر وكذا‏.‏ قال ابن عبّاس بتحليف المرأة إذا شهدت في الرّضاع وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد قال القاضي‏:‏ لا يحلف الشّاهد على أصلنا إلاّ في موضعين وذكر هذين الموضعين، ثمّ قال‏:‏ قال شيخنا - يعني ابن تيميّة - هذان الموضعان قبل فيهما الكافر والمرأة وحدها للضّرورة، فقياسه أنّ كلّ من قبلت شهادته للضّرورة استحلف‏.‏

قال ابن القيّم‏:‏ وإذا كان للحاكم أن يفرّق الشّهود إذا ارتاب بهم فأولى أن يخلّفهم إذا ارتاب بهم‏.‏

الشّهادة على الشّهادة

42 - قد لا يستطيع الشّاهد المقبول الشّهادة أن يؤدّي الشّهادة بنفسه أمام القضاء، لسفر، أو مرض، أو عذر من الأعذار، فيشهد على شهادته شاهدين تتوفّر فيهما الصّفات الّتي تؤهّلهما للشّهادة، ويطلب منهما تحمّلها والإدلاء بها أمام القضاء، فيقوم هذان الشّاهدان مقامه، في نقل تلك الشّهادة إلى مجلس القضاء بلفظها المخصوص في التّحمّل والأداء، لأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك فلا تقبل الشّهادة على الشّهادة إلاّ عند تعذّر شهود الأصل باتّفاق الفقهاء‏.‏

ويشترط الشّافعيّة والحنابلة دوام تعذّر شهود الأصل إلى حين صدور الحكم، فمتى أمكنت شهادة الأصول قبل الحكم وقف الحكم على سماعها، ولو بعد سماع شهادة الفروع، لأنّه قدر على الأصل فلا يجوز الحكم بالبدل‏.‏

وممّا يجيز للشّاهد أن يشهد على شهادته أن يخاف الموت فيضيع الحقّ‏.‏ هذا على وجه العموم، وإن كانت آراء الفقهاء متباينةً فيما يجوز من الشّهادة على الشّهادة وما لا يجوز‏.‏

فقد ذهب مالك، وأبو ثور، وهو أحد قولي الشّافعيّ‏:‏ إلى أنّ الشّهادة على الشّهادة جائزة في سائر الأمور مالاً أو عقوبةً‏.‏

وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّها‏:‏ جائزة في كلّ حقّ لا يسقط بشبهة، فلا تقبل فيما يندرئ بالشّبهات كالحدود والقصاص‏.‏

قال الحنفيّة وإنّما قلنا بذلك استحساناً‏.‏

وجه القياس أنّها عبادة بدنيّة وليست حقّاً للمشهود له والنّيابة لا تجزئ في العبادة البدنيّة، ووجه الاستحسان أنّ الحاجة ماسّة إليها، إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشّهادة لمرض أو موت أو بعد مسافة، فلو لم تجز الشّهادة على الشّهادة أدّى إلى ضياع الحقوق، وصار كتاب القاضي إلى القاضي‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى‏:‏ جواز تحمّل الشّهادة على الشّهادة وأدائها، وإلى قبول الشّهادة على الشّهادة لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏ ولأنّ الحاجة تدعو إليها، لأنّ الأصل قد يتعذّر، ولأنّ الشّهادة حقّ لازم، فيشهد عليها كسائر الحقوق، ولأنّها طريق يظهر الحقّ كالإقرار فيشهد عليها، لكنّها إنّما تقبل في غير عقوبة مستحقّة للّه تعالى، وغير إحصان، كالأقارير، والعقود، والنّسوخ، والرّضاع، والولادة، وعيوب النّساء‏.‏ سواء في ذلك حقّ الآدميّ وحقّ اللّه تعالى كالزّكاة، وتقبل في إثبات عقوبة الآدميّ على المذهب كالقصاص، وحدّ القذف‏.‏

أمّا العقوبة المستحقّة للّه تعالى كالزّنى، وشرب الخمر، فلا تقبل فيها الشّهادة على الشّهادة على الأظهر‏.‏

43 - وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه‏:‏ إذا شهد شاهد واحد على شهادة أحد الشّاهدين، وشهد آخر على شهادة الشّاهد الثّاني، لم يجز ذلك، لأنّه إثبات قول بشهادة واحد‏.‏ خلافاً للحنابلة فإنّهم يجوّزون الشّهادة على هذه الصّورة‏.‏

وإن شهد شاهدان على شهادة شاهد، ثمّ شهدا على شهادة الشّاهد الثّاني في القضيّة نفسها، فقد ذهب الحنفيّة والحنابلة - وهو قول عند الشّافعيّة - إلى جواز ذلك‏.‏

مستدلّين بقول عليّ - رضي الله تعالى عنه -‏:‏ لا يجوز على شهادة رجل إلاّ شهادة رجلين‏.‏ والقول الثّاني‏:‏ عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه يشترط لكلّ من الأصلين اثنان، لأنّ شهادتهما على واحد قائمة مقام شهادته، فلا تقوم مقام شهادة غيره‏.‏

44 - ولا يصحّ تحمّل شهادة مردود الشّهادة، لسقوطها‏.‏

وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه‏:‏ لا يصحّ تحمّل النّسوة للشّهادة على الشّهادة، لأنّ شهادة الفرع تثبت الأصل لا ما شهد به، ولأنّ التّحمّل ليس بمال ولا المقصود منه المال، وهو ممّا يطّلع عليه الرّجال فلم يقبل فيه شهادة النّساء كالنّكاح‏.‏

وذهب المالكيّة إلى جواز شهادة النّساء على شهادة غيرهنّ، فيما تجوز فيه شهادتهنّ، إن كان معهنّ رجل، ومنع من ذلك أشهب، وعبد الملك مطلقاً، وأجاز أصبغ نقل امرأتين عن امرأتين فيما ينفردن به‏.‏

قال ابن رشد‏:‏ وقال ابن القاسم‏:‏ لا يجزئ في ذلك إلاّ رجل وامرأتان، ولا تجزئ فيه النّساء، ولا تجوز شهادة النّساء على شهادة رجل، ولو كنّ ألفاً، إلاّ مع رجل، لأنّ الشّهادة لا تثبت إلاّ برجلين أو رجل وامرأتين‏.‏

وذهب الحنابلة‏:‏ إلى صحّة شهادة النّساء، حيث يقبلن في أصل وفرع، وفرع فرع، لأنّ المقصود إثبات ما يشهد به الأصول فدخل فيه النّساء، فيقبل رجلان على رجل واحد وامرأتين، ويقبل رجل وامرأتان على مثلهم أو رجلين أصلين أو فرعين في المال وما يقصد به، وتقبل امرأة على امرأة فيما تقبل فيه المرأة‏.‏

45 - وإذا فسق الشّاهد الأصيل أو ارتدّ، أو نشأت عنده عداوة للمشهود عليه امتنع القاضي من قبول شهادة الفرع لسقوط شهادة الأصل‏.‏ ولو حدث الفسق أو الرّدّة بعد الشّهادة وقبل الحكم امتنع الحكم‏.‏

الاسترعاء في الشّهادة على الشّهادة

46 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يشترط الاسترعاء في الشّهادة على الشّهادة، والاسترعاء هو‏:‏ طلب الحفظ، أي‏:‏ بأن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع‏:‏ اشهد على شهادتي واحفظها، فللفرع ولمن سمعه يقول ذلك، أن يشهد على شهادته ولو لم يخصّه بالاسترعاء، واستثنوا من ذلك ما إذا سمع شاهد الفرع الأصل شهادة الشّاهد الأصل أمام القاضي، فإنّه يجوز له أن يشهد على شهادته وإن لم يسترعه‏.‏

واستثنى الشّافعيّة والحنابلة أيضاً ما إذا سمع الفرع الأصل يذكر سبب الحقّ بأن يقول‏:‏ أشهد أنّ لفلان على فلان ألفاً من ثمن مبيع أو كقرض أو غير ذلك‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى عدم اشتراطه، لأنّ من سمع إقرار غيره حلّ له الشّهادة وإن لم يقل له اشهد‏.‏

47 - ويؤدّي شاهد الفرع شهادته على الصّفة الّتي تحمّلها من غير زيادة ولا نقص، فإن سمعه يشهد بحقّ مضاف إلى سبب يوجب الحقّ ذكره، وإن سمعه يشهد عند الحاكم ذكره، وإن أشهده شاهد الأصل على شهادته أو استرعاه، قال‏:‏ أشهد أنّ فلاناً يشهد أنّ لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته وهكذا‏.‏

ولا يشترط أن يقوم شاهد الفرع بتعديل شاهد الأصل، ويقوم القاضي بالبحث عن العدالة، فإن عدّله الفرع وهو أهل للتّعديل جاز ذلك‏.‏

وذهب محمّد بن الحسن، إلى أنّه لا تقبل شهادة الفرع ما لم يعدّل شاهد الأصل، فإذا لم يعرف عدالته لم ينقل الشّهادة عنه‏.‏

وإن أنكر شهود الأصل الشّهادة لم تقبل شهادة شهود الفرع، لأنّ التّحميل لم يثبت، للتّعارض بين الخبرين‏.‏

48 - أجاز المالكيّة القضاء بشهادة الاسترعاء على بعض التّصرّفات الّتي يقوم بها الإنسان اضطراراً، كالطّلاق والوقف والهبة، والتّزويج ونحو ذلك، وصورتها أن يكتب المسترعى كتاباً سرّاً، بأنّه إنّما يفعل هذا التّصرّف لأمر يتخوّفه على نفسه، أو ماله، وأنّه يرجع فيما عقد عند أمنه ممّا يتخوّفه ويشهد على ذلك شهود الاسترعاء‏.‏

وقد أورد صاحب تبصرة الحكّام أمثلةً لما يقوله المسترعي، في وثيقة الاسترعاء فيما تجوز فيه شهادة الاسترعاء‏.‏ فقال نقلاً عن ابن العطّار‏:‏ يصدّق المسترعى في الحبس - يعني الوقف - فيما يذكره من الوجوه الّتي يتوقّعها ويكتب في ذلك‏:‏ أشهد فلان شهود هذا الكتاب بشهادة استرعاء، واستخفاء للشّهادة‏:‏ أنّه متى عقد في داره بموضع كذا تحبيساً على بنيه أو على أحد من النّاس فإنّما يفعله لأمر يتوقّعه على نفسه، أو على ماله المذكور، وليمسكه على نفسه ويرجع فيما عقد فيه عند أمنه ممّا تخوّفه، وأنّه لم يرد بما عقده فيه وجه القربة، ولا وجه الحبس بل لما يخشاه وأنّه غير ملتزم لما يعقده فيه من التّحبيس وأشهد عليه بذلك في تاريخ كذا وكذا‏.‏

وممّا ذكروه أيضاً أنّه إذا خطب من هو قاهر لشخص بعض بناته فأنكحه المخطوب إليه، وأشهد شهود الاسترعاء سرّاً‏:‏ أنّي إنّما أفعله خوفاً منه وهو ممّن يخاف عداوته‏.‏

وأنّه إن شاء اختارها لنفسه لغير نكاح فأنكحه على ذلك فهو نكاح مفسوخ أبداً‏.‏

وإذا بنى ظالم أو من يخاف شرّه غرفةً محدثةً بإزاء دار رجل وفتح باباً يطّلع منه على ما في داره على وجه الاستطالة لقدرته، وجاهه، فيشهد الرّجل أنّ سكوته عنه لخوفه منه على نفسه أن يضرّه أو يؤذيه، وأنّه غير راض بذلك وأنّه قائم عليه بحقّه متى أمكنه، وتشهد البيّنة لمعرفتهم وأنّ المحدث لذلك ممّن يتّقى شرّه، وينفعه ذلك متى قام بطلب حقّه‏.‏

وفي أحكام ابن سهل‏:‏ من له دار بينه وبين أخيه فباع أخوه جميعها ممّن يعلم اشتراكهما فيها وله سلطان، وقدرة، وخاف ضرره إذا تكلّم في ذلك، فاسترعى أنّ سكوته عن الكلام في نصيبه وفي الشّفعة في نصيب أخيه لما يتوقّعه من تحامل المشتري عليه، وإضراره به، وأنّه غير تارك لطلبه متى أمكنه‏.‏ فإذا ذهبت التّقيّة، وقام من فوره بهذه الوثيقة أثبتها، وأثبت الملك، والاشتراك، وأعذر إلى أخيه وإلى المشتري، قضي له بحقّه وبالشّفعة‏.‏

ما يجوز الاسترعاء فيه

49 - قال ابن فرحون من المالكيّة‏:‏ يجوز الاسترعاء في التّصرّفات الّتي هي من باب التّطوّع‏:‏ كالطّلاق، والتّحبيس والهبة، قال المالكيّة‏:‏ ولا يلزمه أن يفعل شيئاً من ذلك، وإن لم يعلم السّبب إلاّ بقوله، مثل أن يشهد أنّي إن طلّقت فإنّي أطلّق خوفاً من أمر أتوقّعه من جهة كذا، أو حلف بالطّلاق وكان أشهد أنّي إن حلفت بالطّلاق فإنّما هو لأجل إكراه ونحو ذلك فهذا وما ذكرناه معه لا يشترط فيهما معرفة الشّهود والسّبب المذكور‏.‏

ولا يجوز الاسترعاء في البيوع مثل أن يشهد قبل البيع أنّه راجع في البيع وأنّ بيعه لأمر يتوقّعه، لأنّ المبايعة خلاف ما تطوّع به‏.‏ وقد أخذ البائع فيه ثمناً، وفي ذلك حقّ للمبتاع إلاّ أن يعرف الشّهود الإكراه على البيع أو الإخافة فيجوز الاسترعاء إذا انعقد قبل البيع وتضمّن العقد شهادة من يعرف الإخافة والتّوقّع الّذي ذكره‏.‏

الرّجوع عن الشّهادة

50 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الشّاهدين إن رجعا عن شهادتهما، فلا يخلو رجوعهما أن يكون قبل قضاء القاضي أو بعده، فإن رجعا عن شهادتهما قبل الحكم سقطت شهادتهما، لأنّ الحقّ إنّما يثبت بالقضاء، والقاضي لا يقضي بكلام متناقض، ولا ضمان عليهما، لأنّهما لم يتلفا شيئاً على المدّعي، ولا على المدّعى عليه‏.‏

51 - وإن رجعا بعد الحكم وقبل التّنفيذ‏:‏

فإن كان في حدّ أو قصاص لم يجز الاستيفاء والتّنفيذ، لأنّ هذه الحقوق تسقط بالشّبهة، والرّجوع شبهة ظاهرة، فلم يجز الاستيفاء لقيام الشّبهة‏.‏

وإن كان مالاً أو عقداً استوفى المال لأنّ القضاء قد تمّ، وليس هذا ممّا يسقط بالشّبهة حتّى يتأثّر بالرّجوع، فلا ينتقض الحكم‏.‏ وعلى الشّهود ضمان ما أتلفوه بشهادتهم لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضّمان، ولا يرجعون على المحكوم له‏.‏

52 - أمّا إن رجع الشّهود بعد تنفيذ الحكم‏:‏

فإنّه لا ينقض الحكم، ولا يجب على المشهود له ردّ ما أخذه، لأنّه يحتمل أن يكونا صادقين، ويحتمل أن يكونا كاذبين، وقد اقترن الحكم والاستيفاء بأحد الاحتمالين، فلا ينقض برجوع محتمل، وعلى الشّاهدين أن يضمنا ما أتلفاه بشهادتهما‏.‏

فإن كان ما شهدا به يوجب القتل، أو الحدّ، أو القصاص‏:‏ نظر، فإن قالا تعمّدنا ليقتل بشهادتنا، وجب عليهما القود عند الشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة، وبه قال ابن أبي ليلى والأوزاعيّ وأبو عبيد وابن شبرمة‏.‏

لما روى الشّعبيّ أنّ رجلين شهدا عند عليّ - رضي الله عنه - على رجل أنّه سرق فقطعه، ثمّ أتياه برجل آخر فقالا‏:‏ إنّا أخطأنا بالأوّل، وهذا السّارق، فأبطل شهادتهما على الآخر، وضمّنهما دية يد الأوّل، وقال‏:‏ لو أعلم أنّكما تعمّدتما لقطعتكما‏.‏

ولأنّهما ألجآه إلى قتله بغير حقّ، فلزمهما القود كما لو أكرهاه على قتله‏.‏

وذهب الحنفيّة، وجمهور المالكيّة‏:‏ إلى أنّه لا قود عليهما، لأنّهما لم يباشرا الإتلاف، فأشبها حافر البئر، وناصب السّكّين، إذا تلف بهما شيء، وعليهما الدّية‏.‏

وإن قال الشّهود‏:‏ أخطأنا، أو جهلنا كانت عليهم الدّية في أموالهم مخفّفةً مؤجّلةً، ولا تتحمّل العاقلة عنهما شيئاً، لأنّ العاقلة لا تحمل الاعتراف‏.‏

وإن قالوا‏:‏ تعمّدنا الشّهادة ولم نعلم أنّه يقتل وهم يجهلون قتله وجبت عليهم دية مغلّظة، لما فيه من العمد، ومؤجّلة لما فيه من الخطأ‏.‏

فإن قالوا‏:‏ أخطأنا، وجبت دية مخفّفة، لأنّه خطأ ولا تحمله العاقلة لأنّها وجبت باعترافهم‏.‏

فإن اتّفقوا على أنّ بعضهم تعمّد وبعضهم أخطأ وجب على المخطئ قسطه من الدّية المخفّفة، وعلى المتعمّد قسطه من الدّية المغلّظة، ولا يجب عليهم القود لمشاركة المخطئ‏.‏

وإن اختلفوا، فقال بعضهم‏:‏ تعمّدنا كلّنا، وقال بعضهم أخطأنا كلّنا، وجب على المقرّ بعمد الجميع القود، وعلى المقرّ بخطأ الجميع قسطه من الدّية المخفّفة‏.‏

رجوع بعض الشّهود

53 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ إلى أنّه إذا رجع أحد الشّاهدين بعد الحكم وبعد استيفائه في شهادة نصابها شاهدان ضمن نصف المال أو نصف الدّية، والعبرة لمن بقي لا لمن رجع‏.‏

ولو رجع واحد من أصل أربعة شهود في شهادة نصابها شاهدان أيضاً، فلا شيء عليه لبقاء نصاب الشّهادة قائماً‏.‏

وكذا لو رجع اثنان منهم فلا شيء عليهما، لبقاء النّصاب‏.‏

ولو رجع ثلاثة منهم فعليهم نصف المال، لبقاء شاهد واحد، وهو شطر الشّهادة فيتحمّلون شطر المال‏.‏

ولو رجعت امرأة وكان النّصاب رجلاً وامرأتين غرمت الرّاجعة ربع المال‏.‏

ولو شهد عشر نسوة ورجل واحد، فرجع ثمان منهنّ فلا شيء عليهنّ، لبقاء نصاب الشّهادة‏.‏ ولو رجع تسع منهنّ غرمن ربع المال‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏

وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّ كلّ موضع وجب الضّمان فيه على الشّهود بالرّجوع وجب أن يوزّع بينهم على عددهم قلّوا أو كثروا‏.‏

قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور عنه‏:‏ إنّه إذا شهد بشهادة ثمّ رجع وقد أتلف مالاً فإنّه ضامن بقدر ما كانوا في الشّهادة، فإن كانوا اثنين فعليه النّصف، وإن كانوا ثلاثةً فعليه الثّلث، وعلى هذا لو كانوا عشرةً فعليه العشر، وسواء رجع وحده أو رجعوا جميعاً، وسواء رجع الزّائد عن القدر الكافي في الشّهادة أو من ليس بزائد، فلو شهد أربعة بالقصاص، فرجع واحد منهم، وقال‏:‏ عمدنا إلى قتله، فعليه القصاص، وإن قال‏:‏ أخطأنا فعليه ربع الدّية، وإن رجع اثنان فعليهما القصاص، أو نصف الدّية‏.‏

وإن شهد ستّة بالزّنى على محصن فرجم بشهادتهم ثمّ رجع واحد فعليه القصاص أو سدس الدّية، وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو ثلث الدّية‏.‏

الاختلاف في الشّهادة

54 - الشّهادة إذا وافقت الدّعوى قبلت، وإن خالفتها لم تقبل ‏;‏ لأنّ تقدّم الدّعوى في حقوق العباد شرط قبول الشّهادة، وقد وجدت فيما يوافقها وانعدمت فيما يخالفها‏.‏

وينبغي اتّفاق الشّاهدين فيما بينهما لتكمل الشّهادة‏.‏

فإن شهد أحدهما أنّه غصبه ديناراً، وشهد الآخر أنّه غصبه ثوباً‏:‏ فلا تكمل الشّهادة على واحد من هذين‏.‏

55 - ويعتبر اتّفاق الشّاهدين في اللّفظ والمعنى عند أبي حنيفة‏.‏ وذهب صاحباه أبو يوسف ومحمّد‏:‏ إلى أنّ الاتّفاق في المعنى هو المعتبر‏.‏

فإن شهد أحد الشّاهدين بألف والآخر بألفين لم تقبل الشّهادة عنده، لأنّهما اختلفا لفظاً، وذلك يدلّ على اختلاف المعنى لأنّه يستفاد باللّفظ، وهذا لأنّ الألف لا يعبّر به عن الألفين، بل هما جملتان متباينتان فحصل على كلّ واحد منهما شاهد واحد، فصار كما إذا اختلف جنس المال‏.‏ وعندهما تقبل على الألف إذا كان المدّعي يدّعي الألفين‏.‏

وهو رأي الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة‏.‏ لأنّهما اتّفقا على الألف، وتفرّد أحدهما بالزّيادة فيثبت ما اجتمعا عليه دون ما تفرّد به أحدهما، فصار كالألف والألف والخمسمائة‏.‏

أمّا إذا شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة والمدّعي يدّعي ألفاً وخمسمائة‏:‏ قبلت الشّهادة على الألف عند الجميع حتّى عند أبي حنيفة لاتّفاق الشّاهدين عليها لفظاً ومعنىً، لأنّ الألف والخمسمائة جملتان عطفت إحداهما على الأخرى والعطف يقرّر الأوّل‏.‏

56 - ومتى كانت الشّهادة على فعل فاختلف الشّاهدان في زمنه، أو مكانه، أو صفة له تدلّ على تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما‏.‏

مثل أن يشهد أحدهما أنّه غصبه ديناراً يوم السّبت، ويشهد الآخر أنّه غصبه ديناراً يوم الجمعة، أو يشهد أحدهما أنّه غصبه بدمشق، ويشهد الآخر أنّه غصبه بمصر، أو يشهد أحدهما أنّه غصبه ثوباً أبيض ويشهد الآخر أنّه غصبه ثوباً أسود‏:‏ فلا تكمل الشّهادة، لأنّ كلّ فعل لم يشهد به شاهدان‏.‏

تعارض الشّهادات

57 - قد يكون كلّ من الخصمين مدّعياً ويقيم على دعواه بيّنةً - شهادةً - كاملةً، فإمّا أن تكون الدّعوى في ملك مطلق أو في ملك مقيّد بذكر سبب التّملّك‏.‏

فإن كانتا في ملك مطلق، لم يذكر فيه سبب التّملّك، ولم يبيّن في الدّعوى تاريخاً على ما ذكره الحنفيّة، فإمّا أن يكون الشّيء المدّعى به في يد أحدهما أو في يد غيرهما أو في يدهما معاً‏.‏ 58 - أ - فإن كان الشّيء في يد أحدهما‏:‏ فبيّنة الخارج أولى من بيّنة ذي اليد عند الحنفيّة وهي الرّواية المشهورة عن أحمد لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ » البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه« ولأنّ المدّعي هو الّذي يدّعي ما في يد غيره وذو اليد مدّعىً عليه، فجعل جنس البيّنة في جانب المدّعي، وهو الّذي يدّعي ما في يد غيره، وهو الخارج، فتقبل بيّنته وتردّ بيّنة اليد، ولأنّها أكثر إثباتاً، لأنّها تثبت الملك للخارج، وبيّنة ذي اليد لا تثبته، لأنّ الملك ثابت له باليد، وإذا كانت أكثر إثباتاً كانت أقوى‏.‏

وذهب المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ إلى ترجيح بيّنة ذي اليد، لأنّ البيّنتين متعارضتان، فتبقى اليد دليلاً على الملك، ودليلهم على ذلك ما روي‏:‏ » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابّة أو بعير، فأقام كلّ واحد منهما البيّنة بأنّها له نتجها، فقضى بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للّذي هي في يده «‏.‏

59 - ب - أمّا إذا كان الشّيء في يد غيرهما‏:‏

فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّه ينظر‏:‏ إن‏:‏ لم يؤرّخا وقتاً، قضي بالشّيء بينهما نصفين لاستوائهما في السّبب، وكذا إذا أرّخا وقتاً بعينه‏.‏ وإذا أرخت إحداهما تاريخاً أسبق من الثّانية‏:‏ فالأسبق أولى، لأنّهما يعتبران خارجين، لوجودها عند غيرهما، فينطبق عليهما وصف ‏"‏ المدّعي ‏"‏ فتسمع بيّنتهما، ويحكم للأسبق، لأنّ الأسبق يثبت الملكيّة في وقت لا ينازعه فيه أحد‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه‏:‏ إن تعذّر ترجيح إحدى البيّنتين بوجه من المرجّحات، والحال أنّ المتنازع فيه في يد غيرهما‏:‏ سقطتا، لتعارضهما، وبقي المتنازع فيه بيد حائزه‏.‏ وفي ذلك صور متعدّدة‏.‏

وذهب الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّه إذا ادّعى كلّ منهما عيناً وهي في يد ثالث، وهو منكر ولم ينسبها لأحدهما، وأقام كلّ منهما بيّنةً، وكانتا مطلّقتي التّاريخ أو متّفقتيه، أو إحداهما مطلقةً والأخرى مؤرّخةً‏:‏ سقطت البيّنتان، لتناقض موجبيهما ولا مرجّح، ويحلف صاحب اليد لكلّ منهما يميناً‏.‏ وفي قول‏:‏ تستعمل البيّنتان، وتنزع العين ممّن هي في يده، وعلى هذا تقسم بين المدّعيين مناصفةً في قول، وفي قول آخر يقرع بينهما، ويرجّح من خرجت قرعته‏.‏

وفي قول ثالث‏:‏ توقف حتّى يبين الأمر أو يصطلحا على شيء‏.‏

وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّه إن أنكر الثّالث دعوى المدّعيين، فقال‏:‏ ليست لهما ولا لأحدهما‏:‏ أقرع بين المدّعيين، وإن كان لأحدهما بيّنة‏:‏ حكم له بها، وإن كان لكلّ من المدّعيين بيّنة‏:‏ تعارضتا لتساويهما في عدم اليد، فتسقطان لعدم إمكان العمل بإحداهما‏.‏

60 - ج - أمّا إذا كان الشّيء في يدهما معاً‏:‏

فقد ذهب الحنفيّة إلى التّفصيل‏:‏ فإن لم تؤرّخا تاريخاً، وكذا إذا أرّختا تاريخاً معيّناً وكان تاريخهما سواءً‏:‏ قضي لكلّ واحد منهما بالنّصف الّذي في يد الآخر، لأنّ كلّ واحد بالنّسبة لهذا النّصف خارج فهو مدّع والبيّنة للمدّعي‏.‏

وإن أرّخت إحداهما دون الأخرى‏:‏ قضي بينهما نصفين عند أبي حنيفة ومحمّد، ولا عبرة بالتّاريخ للاحتمال، وعند أبي يوسف هو لصاحب التّاريخ‏.‏

وذهب الشّافعيّة‏:‏ إلى بقاء العين في أيديهما كما كانت على الصّحيح، وهو تساقط البيّنتين، إذ ليس أحدهما بأولى بها من الآخر، وقيل‏:‏ تجعل بينهما على قول القسمة، ولا يجيء القول بالوقف، إذ لا معنى له، وفي القرعة وجهان‏.‏

وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّ المتنازعين إن كان لكلّ منهما بيّنة وتساوت البيّنتان من كلّ وجه‏:‏ تعارضتا وتساقطتا، لأنّ كلاً منهما تنفي ما تثبته الأخرى، فلا يمكن العمل بهما، ولا بإحداهما فتتساقطان، ويصير المتنازعان كمن لا بيّنة له، فيتحالفان، ويتناصفان ما بأيديهما‏.‏

وذهب بعض المالكيّة‏:‏ إلى ترجيح إحداهما بزيادة العدالة في البيّنة الأصليّة لا المزكّية، وفي رأي بعضهم ترجّح بزيادة العدد إذا أفادت الكثرة العلم، بحيث تكون الكثرة جمعاً يستحيل تواطؤهم على الكذب‏.‏

61 - وإن كانتا في ملك مقيّد بسببه‏:‏

وذلك بأن يذكر الملك عن طريق الإرث مثلاً أو عن طريق الشّراء أو النّتاج‏.‏

ففي الإرث يقضى به للخارج، إلاّ إذا كانت إحداهما أسبق، فيقضى به للأسبق‏.‏

أمّا إذا كانا خارجين، بأن كان الشّيء عند غيرهما، فيقسم الشّيء بينهما، أو يقضى به للأسبق إذا ذكرا تاريخاً‏.‏

وفي الشّراء‏:‏ إذا ادّعى كلّ واحد منهما الشّراء من صاحبه ولا تاريخ لهما، وكذا إن أرّخا وتاريخهما سواء، تعارضتا وسقطتا، ويترك الشّيء للّذي في يده‏.‏

أمّا إذا كان أحدهما أسبق‏:‏ فإنّه يقضى له، وإذا ادّعيا الشّراء من شخص آخر يقضى لهما بالشّيء نصفين‏.‏

وفي النّتاج‏:‏ بأن يذكر أنّ هذه النّاقة نتجت عنده، أي‏:‏ ولدت في ملكه، فيكون صاحب اليد أولى إذا لم يؤرّخا، أو أرّخا وقتاً واحداً، لأنّ النّتاج لا يتكرّر‏.‏

لما روي‏:‏ » أنّ رجلين اختصما في ناقة، فقال‏:‏ كلّ واحد منهما‏:‏ نتجت هذه النّاقة عندي‏.‏ وأقاما بيّنةً فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للّذي هي في يده «‏.‏

أمّا ما يتكرّر سببه، كالبناء، والنّسج، والصّنع، والغرس‏:‏ فبيّنة الخارج أولى‏.‏

أمّا إذا ذكر أحدهما الملك والآخر النّتاج‏:‏ فبيّنة النّتاج أولى لأنّها تثبت أوّليّة الملك لصاحبه‏.‏ وجاء في مجلّة الأحكام العدليّة ما يلي‏:‏

أ - إذا ادّعى أحد الشّخصين الملك بالاستقلال وادّعى الآخر الملك بالاشتراك في مال، والحال أنّ كلاً منهما متصرّف أي ذو يد‏:‏ فبيّنة الاستقلال أولى‏.‏

ب - ترجّح بيّنة التّمليك على بيّنة العاريّة‏.‏

ج - ترجّح بيّنة البيع على بيّنة الهبة والرّهن والإجارة وترجّح بيّنة الإجارة على بيّنة الرّهن‏.‏

د - ترجّح بيّنة الصّحّة على بيّنة مرض الموت‏.‏

هـ - ترجّح بيّنة العقل على بيّنة الجنون أو العته‏.‏

و - ترجّح بيّنة الحدوث على بيّنة القدم‏.‏

كثرة العدد وقوّة عدالة الشّاهد

62 - إذا أقام كلّ واحد من المتداعيين بيّنةً على ما ادّعاه ولم يكن بين البيّنتين من المرجّحات سوى كثرة إحداهما على الأخرى بأن كانت الأولى عشرة شهود وكانت الثّانية شاهدين فقط، أو ترجّحت إحداهما بزيادة العدالة بأن كانت أظهر زهداً وأوفر تحرّجاً من الأخرى‏.‏

فهل تترجّح إحداهما على الأخرى‏؟‏‏.‏

ذهب بعض الفقهاء من المالكيّة إلى ترجيحها بزيادة العدد وقوّة العدالة‏.‏

وذهب الحنفيّة والحنابلة، وهو المذهب عند الشّافعيّة، وقول جمهور المالكيّة‏:‏ إلى أنّه لا يغلّب الحكم بالبيّنة الزّائدة في العدد والعدالة وإنّما هما سواء، لأنّ اللّه تعالى نصّ على عدد الشّهادة بقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ‏}‏‏.‏

فمنع النّصّ من الاجتهاد في الزّيادة والنّقصان، ولأنّه لمّا جاز الاقتصار على الشّاهدين مع وجود من هو أكثر، وعلى قبول العدل مع من هو أعدل، دلّ على أنّه لا تأثير لزيادة العدد وقوّة العدالة‏.‏

شهادة الأبداد

63 - الأبداد‏:‏ هم المتفرّقون، واحدهم بدّ، من التّبديد، لأنّ الشّهود شهدوا في ذلك متفرّقين، واحد هنا وآخر في موضع آخر، وواحد اليوم وواحد غداً، وواحد على معنىً، وواحد على معنىً آخر‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ الّذين انفردوا ببيان أحكام هذه الشّهادة‏:‏ تجوز شهادة الأبداد في النّكاح، وهي أن لا يجتمع الشّهود على شهادة الوليّ والزّوج، بل إنّما عقدوا وتفرّقوا، وقال كلّ واحد لصاحبه‏:‏ ‏"‏ أشهد من لقيت ‏"‏ هكذا فسّروه بناءً على المشهور من المذهب، أنّ الشّهادة ليست شرطاً في صحّة العقد‏.‏

فتتمّ عندهم بشهادة ستّة شهود‏:‏ منهم اثنان على الوليّ، واثنان على الزّوج، واثنان على الزّوجة إن كانت ثيّباً‏.‏ وفي البكر ذات الأب تتمّ بأربعة‏:‏ منهم شاهدان على الزّوج وشاهدان على الوليّ‏.‏

وأمّا إن أشهد كلّ واحد منهم الشّهود الّذين أشهدهم صاحبه مرّةً بعد مرّة فليست شهادة أبداد‏.‏ قال ابن الهنديّ‏:‏ شهادة الأبداد لا تعمل شيئاً، إذا شهد كلّ واحد منهم بغير نصّ ما شهد به صاحبه، وإن كان معنى جميع شهاداتهم واحداً، حتّى يتّفق منهم شاهدان على نصّ واحد‏.‏ لكن في المذهب خلاف فيما قاله ابن الهنديّ، ففي أحكام ابن سهل سئل مالك عن شاهدين شهد أحدهما في منزل أنّه مسكن هذا، وشهد آخر أنّه حيزه، فقال خصمه‏:‏ قد اختلفت شهادتهما‏.‏ فقال مالك‏:‏ مسكنه وحيزه شهادة واحدة لا تفترق‏.‏

شهادة الاستخفاء أو الاستغفال

64 - المستخفي هو الّذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليسمع قراره ولا يعلم به، كأن يجحد الحقّ علانيةً ويقرّ به سرّاً، فيختبئ شاهدان في موضع لا يعلم بهما المقرّ ليسمعا إقراره، وليشهدا به من بعد، فشهادتهما مقبولة عند جمهور الفقهاء ورواية عن أحمد‏.‏

وقيّده المالكيّة بما إذا كان المشهود عليه غير مخدوع ولا خائن لأنّ الحاجة تدعو إليه‏.‏

وذهب بعضهم وهي الرّواية الثّانية عن أحمد‏:‏ إلى أنّه لا تسمع شهادة المستخفي، لأنّ اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَلا تَجَسَّسُوا‏}‏

شهادة الزّور

65 - شهادة الزّور من الكبائر‏.‏ ولا يجوز العمل بها ولا تقبل شهادته فيما بعد لحديث أبي بكرة قال‏:‏ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً قالوا‏:‏ بلى يا رسول اللّه‏.‏ قال‏:‏ الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين - وجلس وكان متّكئاً - فقال‏:‏ ألا وقول الزّور‏.‏ قال‏:‏ فما زال يكرّرها حتّى قلنا‏:‏ ليته سكت «‏.‏

ولأنّ فيها رفع العدل، وتحقيق الجور‏.‏

فإذا أقرّ شخص أنّه شهد بزور أو قامت البيّنة على ذلك، قال أبو حنيفة‏:‏ يشهّر به في السّوق، إن كان من أهل السّوق أو في قومه أو محلّته بعد صلاة العصر في مكان يجتمع فيه النّاس، ويقال‏:‏ إنّا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذّروا النّاس منه‏.‏

ولا يحبس ولا يعزّر بالضّرب لتحقّق القصد وهو الانزجار‏.‏

وكان شريح يشهّره ولا يضربه‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمّد‏:‏ نوجعه ضرباً ونحبسه‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ للإمام أن يعزّر شاهد الزّور بالضّرب أو الحبس أو الزّجر، وإن رأى أن يشهّر أمره فعل لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنّه ضرب شاهد الزّور أربعين سوطاً وسخّم وجهه أي‏:‏ سوّده‏.‏

ولأنّ هذه كبيرة يتعدّى ضررها إلى العباد، وليس فيها حدّ مقدّر فيعزّر‏.‏

وذهب المالكيّة والحنابلة‏:‏ إلى تعزيره وضربه وأن يطاف به في المجالس‏.‏

وعلى كلّ حال إذا ثبت زوره ردّت شهادته، ونبّه النّاس على حقيقته‏.‏

وتبيّن أنّ الحكم المبنيّ على شهادته كان باطلاً لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ » اذكروا الفاسق بما فيه ليحذره النّاس «‏.‏

والمسلمون وأهل الذّمّة في حكم شهادة الزّور سواء، لقيام الأهليّة في حقّهم جميعاً فيما تعلّق بشهادة الزّور‏.‏

وإذا تاب شاهد الزّور ومضت على ذلك مدّة ظهرت فيها توبته، وتبيّن صدقه وعدالته‏:‏ قبلت شهادته عند الحنابلة وبه قال أبو حنيفة والشّافعيّ‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا تقبل شهادته أبداً، لأنّ ذلك لا يؤمن منه‏.‏

شهادة الحسبة

66 - يقصد بها أن يؤدّي الشّاهد شهادةً تحمّلها ابتداءً لا بطلب طالب ولا بتقدّم دعوى‏.‏

ومعنى ‏"‏ حسبةً ‏"‏ أي احتساباً لوجه اللّه تعالى‏.‏

وتقبل شهادة الحسبة في كلّ ما تمحّض حقّاً للّه تعالى، كالزّنى، والشّرب والسّرقة، وقطع الطّريق، والزّكاة، والكفّارة، والطّلاق، والاستيلاد، والوقف على الفقراء وعامّة المسلمين وغير ذلك من الأمور العامّة‏.‏

انظر‏:‏ ‏(‏حسبة‏)‏‏.‏